اعجب عنوان صحفي وقعت عليه هذا الاسبوع , كان الذي تصدر واجهة احدي صحف الاحد الماضي 16/12 , ونصه كالتالي : جبهة الانقاذ : المؤشرات 65 في المائة يرفضون الدستور واي نتيجة مخالفة تؤكد التزوير. وهذه المعلومة التي حددت نسبة الرافضين وقطعت بانها اذا قلت عن ذلك فستؤكد التزوير , يفترض انها كتبت وارسلت الي المطبعة قبل موعد اغلاق الصناديق الذي جري مده الي الحادية عشرة مساء. وهي تذكرنا باصرار الحركة الصهيونية علي ان النازيين الالمان اعدموا ستة ملايين يهودي اثناء الحرب العالمية الثانية , واعتبرت اي نزول عن ذلك الرقم جريمة يستحق صاحبها العقاب , في اوروبا علي الاقل. علما بان الصهاينة كانوا اكثر احتشاما من الجريدة المصرية التي نشرت العنوان , ذلك انهم انتظروا عدة سنوات حتي اطلقوا ادعاءهم , في حين ان اصحابنا تلهفوا علي اعلان التزوير قبل موعد اغلاق صناديق الاقتراع.
كانت الصحف المصرية صباح امس قد ذكرت ان وزير العدل المستشار احمد مكي طلب من محاكم الاستئناف السبع علي مستوي الجمهورية ندب قضاة للتحقيق في كل البلاغات التي تحدثت عن انتهاكات شابت المرحلة الاولي من الاستفتاء , وهو التحقيق الذي كان يتعين انتظار نتائجه للتعرف علي ما اذا كان هناك تزوير ام لا , وما هو حجمه ان وجد؟. اما الاصرار علي حدوث التزوير وتجنيد العديد من المنابر الاعلامية لاقناع الناس بان الامر مقطوع به ولا يقبل المناقشة , ودعوة الجماهير الي الخروج في مسيرات للاحتجاج علي التزوير , الذي تم التعامل معه باعتباره حقيقة لا تقبل المناقشة. حتي ان احدي الصحف خرجت علينا بعنوان احمر من كلمة واحدة هي ' المزورون ' , وظهرت الكلمة فوق ارضية سوداء تنعي لنا ماتم الديمقراطية.
الي جانب ذلك فقد بدا محيرا ان تصر الابواق الاعلامية طول الوقت علي التزوير رغم ان فارق الاصوات التي اعلنت جاء متواضعا ' 57 في المائة قالوا نعم و43 في المائة قالوا لا ' , وهو ما دفع البعض الي عدم الاعتداد بهذه الاغلبية في تمرير الدستور , وقال قائلهم ان النسبة التي اعلنت تعني ان المجتمع شبه منقسم ازاءه , وذلك مؤشر سلبي. بالتالي فلكي يطمئن الي قبول المجتمع به فسيتعين ان يصوت لصالحه الثلثان. وقد كان بوسع المزورين , اذا كانوا قد فعلوها , ان يرفعوا من نسبة المؤيدين لكي يتجنبوا ذلك النقد , لكن ذلك لم يحدث , الامر الذي يعني انهم لايزالون محدثين , حتي في التزوير.
لم يقف الامر عند ذلك الحد , لان اللعب في الاخبار المتعلقة بالاستفتاء استمر في نشر نتائج فرز اصوات المصريين في الخارج , وكان الحصر النهائي لعمليات الفرز قد اوضح ان 69 في المائة منهم ايدوا مشروع الدستور , في حين 31 في المائة عارضوه. لكن بعض صحفنا اصرت علي ان مصر قالت لا و التزوير قال نعم. وذكرت صحف اخري ان الرافضين للدستور في الخارج ' اكتسحوا ' مؤيديه. وقد وجهت الرسالة الي الذين يقراون العناوين فقط , لان التفاصيل المنشورة ذكرت النسبة الحقيقية التي لم تدل علي اي ' اكتساح ' حتي من قبل المؤيدين.
ما همَّني في الامر هو المدي الذي بلغه الاستقطاب , و الذي جعل البعض لا يترددون في اهدار ابسط قواعد المهنة لا تسال عن الاخلاق لكي يكثفوا من حملة الرفض و التحريض. وهو ما كان يمكن ان يتم باسلوب اكثر احتشاما واحتراما لقواعد المهنة ولعقل القارئ.
ذلك الاهدار لقواعد المهنة و التلاعب غير الاخلاقي بالمعلومات و الحقائق يقدم دليلا آخر علي استغراق النخبة ليس فقط في محاولات تشويه الآخر وهدمه , وانما ايضا في الاصرار علي هدم قواعد اللعبة واحدة تلو اخري. حتي ازعم ان احدي مشكلات مصر الآن ليست فقط في الاستقطاب الحاد المخيم عليها , وانما ايضا في ان صراع النخبة اصبح يمارس بلا قواعد. بالتالي فكل ما يحقق اقصاء الآخر وانزال الهزيمة به يظل مقبولا ومرحبا به , بصرف النظر عن الوسائل التي استخدمت لتحقيقه , وحتي اذا ادي ذلك الي شل حركة الانتاج في المجتمع , وتشويه صورة الثورة المصرية امام العالم الخارجي.
لقد ادهشني مثلا لجوء البعض الي الاعتصام امام مدينة الانتاج الاعلامي احتجاجا علي ممارسات بعض القنوات الفضائية , واستغربت ان يذهب آخرون لمحاصرة مقر المحكمة الدستورية. ولم افهم سببا لاستهداف قصر الاتحادية ولم استطع ان افترض حسن النية في اظهار احد مقدمي البرامج رسما تقريبيا لموقع مكتب رئيس الجمهورية , ويتصادف ان يتم ذلك اثناء اتجاه البعض الي مقره. لكن ما صدمني حقا ولازلت عاجزا عن تصديقه لجوء مجموعة من وكلاء النيابة الي محاصرة مكتب النائب العام واجباره علي الاستقالة من منصبه. ولم اصدق عيناي حين قرات في صحف اليوم التالي تهليلا لهذه الخطوة التي لم يشهد التاريخ القانوني لمصر لها مثيلا من قبل , واعتبرها بعض الشخصيات السياسية و الفضائية عملا وطنيا شجاعا.
ان مشكلة اللعبة التي تتم بلا قواعد لا تكمن فقط في ان كل اطرافها يخرجون خاسرين , ولو ظنوا غير ذلك , وانما الاخطر من ذلك ان خسارة الوطن تصبح اكبر وافدح. تصبح بلا حدود!
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق