في خلفية الصراع حول صناديق الاستفتاء في مصر , يكمن صراع آخر اوسع نطاقا واشد باسا حول الفضاء الاعلامي الذي ادخلنا في قلب عصر ' مجتمع الفرجة ' .
' 1 '
ليس لدي ما اقوله عن الاستفتاء قبل انتهاء التصويت و الفرز , لانشغالي بزاوية اخري في الموضوع. ذلك انني ازعم بان الصناديق هي المرمي الذي تسجل فيه الاهداف , الا ان اهتمامي منصب علي الفضاء الاعلامي الذي هو بمثابة الملعب الذي دارت المباراة علي ارضه من خلال الادراك الذي يشكله و الحقائق التي يصنعها و الرموز و النجوم التي يصفها , اذ في ذلك الفضاء ظلت تتردد خلال الاسابيع الاخيرة عناوين ومصطلحات تنافست في الرنين وجذب الانتباه , وحملت في ثناياها رسائل استهدفت التاثير في الادراك العام , ومنها ما اربك المتابعين للاوضاع في مصر من الخارج وعبر شاشات التليفزيون.
اتصل بي هاتفيا من استنبول مراسل للتليفزيون التركي الناطق بالعربية ليسالني عن تداعيات الانذار الذي قدمته ' جبهة الانقاذ ' في مصر الي الرئيس محمد مرسي , واصيب الرجل بالاحباط حين قلت له ان الساحة المصرية تحفل بالعناوين الكبيرة التي قد يكون لها رنينها الا ان اوزانها الحقيقية علي الارض مشكوك فيها. عندئذ قال : هل تعني ان تهديدات جبهة الانقاذ لن تؤثر في مستقبل الاوضاع في مصر في الفترة القادمة؟ في الاجابة علي سؤاله حاولت اقناعه بان الصور التي تعرض علي شاشات التليفزيون او العناوين التي تبرزها الصحف لا تعبر عن الحقيقة بالضرورة , وهي في احسن حالاتها تسلط الضوء علي احد جوانب الحقيقة التي ينحاز اليها المنبر الاعلامي , بعدما اصبحت امثال تلك المنابر جزءا من حالة الاستقطاب المخيمة علي الساحة المصرية. ولا اعرف ان كان الرجل قد صدقني ام لا حين قلت له ان الجماهير التي خرجت الي شوارع مصر ليست بالضرورة من انصار الواقفين علي المنصات او حتي المحمولين علي الاكتاف , وانما هي خرجت استجابة لنداءات الاحتجاج و الغضب وليس امتثالا لتوجيهات تلك الرموز التي تظهر في الفضائيات ولا تغادر صورها وتصريحاتها صفحات الصحف.
في وقت سابق استوقفني احدهم في تونس وسالني عن علاقة محمد ابوتريكة بالاخوان المسلمين. وسالني صحفي يمني عن رايي في ' زعل ' السيدة فاتن حمامة علي الاوضاع العامة في مصر. وتلقيت رسالة من قارئ سعودي طلب مني ان اوافيه برقم هاتف المخرج خالد يوسف , ليستفسر منه عن سبب اختفائه من المشهد السياسي و الحوارات التليفزيونية في الآونة الاخيرة. لم يكن لديّ اجابة علي امثال تلك الاسئلة لان منها ما لم اكن معنيا به , ومنها ما كان خبرا جديدا عليّ. لكنني وجدت فيما تلقيته تعبيرا عن زمن الفرجة الذي نعيشه , الذي تمثل فيه وسائل الاعلام المصدر الرئيسي للمعلومات و العنصر الاساسي في تشكيل الادراك. وبمقتضاه انتقلنا من عصر الحقائق الي عصر الانطباعات , وتلك في رايي خطوة الي الوراء وليس الي الامام.
' 2 '
لا مفر من الاعتراف بان التليفزيون اصبح هو لاعب سياسي في الساحة المصرية الآن. صحيح انه يؤدي ذات الدور في مختلف انحاء العالم , بما في ذلك الدول الديمقراطية. ليس وحده بطبيعة الحال لان مختلف وسائل التواصل الاجتماعي صار لها دور مؤثر في تشكيل الادراك العام , الا ان خطورة التليفزيون تكمن فيما يمتلكه من وسائل الابهار و الجذب التي تلعب فيها الصور و الالوان دورا اساسيا. وربما جاز لنا ان نقول ان اسهام التليفزيون اكبر في تشكيل الادراك في حين ان وسائل التواصل الاخري اسهام اكبر في نقل المعلومات و الانطباعات. وهي الساحة التي تشهد تطورا مثيرا في الوقت الراهن في ظل المنافسة الشرسة بين الشركات العالمية الكبري في ابتكار وتجديد وسائل الجذب و التوصيل.
هذا الحاصل في بلاد الدنيا يكتسب اهمية خاصة في الدول التي تعاني من الفراغ السياسي ومصر بينها. ذلك ان التليفزيون اذا كان عاملا اساسيا في تشكيل الادراك في الدول الديمقراطية , التي تنشط فيها الاحزاب وتتعدد المؤسسات و المجالس المنتخبة , فانه يصبح اللاعب الاهم وربما الاوحد في الدول التي تعاني من الفراغ السياسي.
فمصر مثلا لا تعرف الآن حوارا متصلا الا في البرامج التليفزيونية , كما ان متابعة الناس لما يجري في الشوارع و الميادين تتكفل به الكاميرات الموزعة علي مختلف المدن , التي تجعلنا نشاهد حركة المجتمع ساعة بساعة. واحيانا يتم ذلك في اكثر من مدينة في نفس الوقت , حيث تقسم الشاشات الي اربعة اقسام يظهر كل منها الصورة من مدينة مختلفة.
بسبب من ذلك قلت ان اهم حزب معارض للرئيس مرسي هو التليفزيون , صحيح ان الصحف الخاصة تقف بدورها في صف المعارضة , الا ان تاثيرها يظل هامشيا اذا ما قورن به. وقد علمت ان ثمة دراسة في رئاسة الجمهورية المصرية اعدها احد الخبراء حول تحليل مضمون الخطاب لخمس عشرة قناة تليفزيونية خاصة بينت انه من بين مائة ساعة حوارية تجري يوميا فان ما بين 6 و8 في المائة منها فقط يؤيد موقف الرئيس مرسي في حين ان الحوارات الاخري كلها تنحاز ضده. واثار الانتباه في تلك الدراسة التي اعدت في شهر اكتوبر الماضي ان نسبة التاييد للرئيس في قنوات التليفزيون الحكومي تتراوح ما بين 22 و32 في المائة فقط , الامر الذي يعني ان نحو 70 في المائة من خطاب التليفزيون الرسمي تنتقده وتعارضه.
' 3 '
توظيف الفضاء الاعلامي في الصراع السياسي هو بمثابة استخدام لادوات عصر الفرجة الذي تتحدد فيه القيمة لا علي اساس من الجدارة و الاستحقاق , وانما اعتمادا علي الرؤية و المظهر. الامر الذي يجعل الاعلام وجميع الوسائط السمعية و البصرية صاحبة اليد الطولي في صنع القيادات وايجاد النجوم واضفاء القيمة واعطاء الاولويات و المراتب.
في شهر نوفمبر الماضي كتبت الروائية الجزائرية احلام مستغانمي مقالة تحت عنوان ' بلاد المطربين اوطاني ' اعربت فيه عن حزنها لانها عند البعض لم تعد تنتسب الي وطن بقدر ما اصبحت تنتسب الي مطربة , او الي الوطن عبر مطرب. فهي في اعين من تلتقيهم ليست جزائرية , وانما هي من بلاد الشاب خالد , وتحسرت عما آلت اليه الامور في الزمن الراهن. ففي الخمسينيات كان الجزائري ينسب الي بلد الامير عبدالقادر , وفي الستينيات كان الجزائري ينسب الي احمد بن بله وجميلة بوحريد , وفي السبعينيات اصبح ينسب الي بلد هواري بومدين و المليون شهيد. اما اليوم فالجزائري و العربي بصفة عامة ينسب الي مطربة او الي المغني الذي يمثله في ' ستار اكاديمي ' .
اثار المقال انتباه كثيرين , وعلق عليه الكاتب المغربي الاستاذ عبدالسلام بن عبد العالي فيما نشرته له صحيفة ' الحياة ' اللندنية ' عدد 10/11/2012 ' قائلا ان ما ذكرته السيدة مستغانمي هو من شهادات عصر الفرجة الذي يعيشه عالم اليوم , ومشيرا الي انه : من منا لا ينتسب الي الوطن عبر مطرب او مطربة فهو ينتسب اليه عبر نجم رياضي او تليفزيوني او فرقة كروية.
فاسبانيا في ذهن الكثيرين لم تعد بلاد ثيرفا نتيس ولا لوركا , وانما هي بلد الثنائي البارسا/الريال. وقبل اعوام عندما طلب من الفرنسيين ان يصوتوا علي الرجل الاول في فرنسا نازع شارل ديجول في المرتبة كل من النجمين الرياضيين زين الدين زيدان وبانيك نوها , ونجم الشاشة الصغيرة ميشيل دوركير.
في تعليق سابق للكاتب المغربي علي واقعة سحب جائزة الشيخ زايد من مؤلف ثبت انه سرق النص الفائز من مؤلف آخر , قال ان جائزة التاليف لا تعطي بالضرورة لمن يستحقها عن جدارة , لكنها قد تعطي ايضا لمن تضافرت آليات متعددة في صنع القيمة التي اعطيت له ولعمله وللعنوان الذي اختاره وللمجال الذي الف فيه. و الحاصل في مجال الادب له نظيره في مجال الفنون , حيث يتم انتقاء او اصطناع المغنّين و الممثلين. وتتضافر آليات مجتمع الفرجة علي ان ترسخ في عيوننا وعقولنا , وعلي جدراننا وصورنا , في كتبنا وصحفنا , واخبارنا وشائعاتنا , ان النجم هو الاكبر , وان الشخص هو الاجدر وان الموضوع هو الاهم و الاخطر.
' 4 '
في شهر ابريل من العام الحالي صدر في بيرو كتاب عن ' حضارة الفرجة ' توقع فيه مؤلفه زوال الثقافة في ذلك الزمن. و المؤلف هو ماريو بارجاس يوسا ' 76 سنة ' الحاصل علي جائزة نوبل في الادب عام 2010. وانتقد الكاتب فيه وسائل الاعلام لعنايتها بالتسلية و التسطيح و التهريج , الامر الذي جعل لنجوم التليفزيون و اللاعبين الكبار التاثير ذاته الذي كان للاساتذة و المفكرين , وقبل ذلك علماء الدين , كما انه انتقد المساحة الواسعة التي تخصص للموضة و المطبخ في الاقسام الثقافية , قائلا ان الطهاة ومصممي الازياء استحوذوا علي دور البطولة الذي كان لرجال العلم و المؤلفين و الفلاسفة.
في رايه انه في ظل حضارة الفرجة طغت الصور علي الافكار واصبحت وسائل الاعلام تسهم في تكريس اشاعة الخفة و الترويج للثقافة الضحلة و المسطحة , الامر الذي يؤدي الي نسيان ان الحياة ليست مجرد متعة , وانما هي دراما والم وغموض واحباط. وحسب تعبيره , فانه ازاء اجواء الاهمية المفرطة التي تعطي للترفيه و التسلية في عالم الفرجة فان المفكر يكتسب اهمية اذا ما ساير لعبة الموضة وصار مهرجا.
ان المازق الحقيقي لزمن الفرجة انه يقدم السمع و البصر علي العقل , الذي اخشي ان يضمر ويتراجع دوره بمضي الوقت ربنا يستر!
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق