يروي ان شخصا كان يقود سيارة في جو ممطر دون مسّاحات في شارع مليء بالمطبات وفجاة وجد امامه سيارة نورها عال ودراجة بخارية تحمل فوقها الكثير من البضائع يقودها شخص يتمايل بشيء من الرعونة وانوار الشارع منطفئة وهناك فرح بلدي اقرب الي الهرجلة تخرج منه اصوات طلقات النار وفجاة يخرج شخص مسرعا من وسط الفرح فيحاول قائد السيارة ان يفاديه فيرتطم بطفل كان يجلس علي سيارة مركونة في غير المكان المخصص لركن السيارات. يموت الطفل. يتوقف الفرح. يتجمع الناس لمعاقبة المسئول عن موت الطفل.
ويتداخل كل هؤلاء في معركة كلامية. ويحكي كل واحد منهم الحكاية علي النحو الذي يبرئه , لكن الطفل مات.
الجو ممطر بما يستدعي الحذر , ولكننا غير حذرين. قائد السيارة التي تسير بلا مسّاحات , يقول مبررا موقفه : كم من سيارات في مصر تسير بلا مسّاحات ثم ان الشارع مليء بالمطبات , لماذا لم تقم الحكومة بتسويتها؟ لكن الطفل مات. ثم ينظر السائق المتهم الي سائق السيارة التي كانت في المواجهة ذات النور العالي ليلومه علي ما فعل , فيرد عليه هذا الاخير بانه لم يكن يري شيئا لان الشارع بلا انوار , لماذا لم تقم شركة الكهرباء بانارة الطريق؟ يسال الرجل موضحا موقفه. لكن الطفل مات.
ويتدخل قائد العجلة البخارية المحملة بالكثير من الاشياء بانه لا ذنب له , لانه لم يكن يتمايل بقرار منه وانما معه حمولة ثقيلة حمّله اياها صاحب المصنع الذي يعمل به وكان يحاول ان يتفادي شخصا وجده يجري مسرعا من الفرح نحو السيارة التي كان يقف عليها الطفل. لكن الطفل مات.
ويتبين ان الرجل الذي كان يجري مسرعا من الفرح كان و الد الطفل , وقد تركه علي ظهر السيارة حتي يذهب بسرعة ليقول ' مبروك ' للحاج عبدالسميع و الد العروس , ولما انطلقت اصوات البنادق احتفاء بالعرس الميمون , فزع الطفل وكاد يقع من علي ظهر السيارة , فاراد ابوه ان ينقذه. لكن الطفل مات.
ثم ياتي من بعيد صوت احد عمال الكهرباء ليقول انه لا ذنب لشركة الكهرباء لان القائمين علي الفرح كانوا يسرقون الكهرباء من عمود النور فعملوا ' قفلة ' فاعمدة الانارة توقفت عن العمل , وحين لامهم اعطوه الذي فيه النصيب حتي يسكت. لكن الطفل مات.
هذه مصر. وهؤلاء هم المصريون في الشارع وفي المصنع وفي الحزب وفي مؤسسة الرئاسة وفي البرلمان وفي الاستديوهات. خلطة من العشوائية و الاستخفاف و الاهمال. انتهت القصة. لكن الطفل مات.
تخيلوا معي ان الطفل هو ثورتنا. من المسئول عن ضياعها؟ من المسئول عن الخراب الذي يحل بالبلاد؟ من المسئول عن بقاء المجلس العسكري في السلطة اطول مما يجب بكل ما اقترفه من اخطاء؟ من المسئول عن اننا لم نحترم ارادة الناخبين في استفتاء مارس 2011؟ من المسئول عن ضياع فرصة ان يكون دستور 1971 بتعديلاته هو دستور المرحلة الانتقالية؟ من المسئول عن الا يمثل الثوار في البرلمان ثم عن حل البرلمان؟ من الذي رفض ان يكون دستورنا هذا مؤقتا لعشر سنوات فقط او اقل؟ من المسئول عن ضياع التوافق؟ من المسئول عن اختطاف البلاد؟ من المسئول عن الارواح التي ازهقت؟ من المسئول عن خسائر الاقتصاد وخسائر الاخلاق وخسائر الروح المعنوية؟ من المسئول عن الطفل الذي مات؟ قائد السيارة القاتلة ام قائد السيارة المقابلة ام الاب الارعن ام الموتوسيكل المُثقل ام سارق الكهرباء ام مطلق الرصاص ام الحاج عبدالسميع ام مطر السماء؟ تتعدد الاجابات : لكن الطفل مات.
كل واحد يجيد القاء اللوم علي الآخرين ويستعين بالاصدقاء و المناصرين. لكن الطفل مات. الطفل مات. الطفل مات.
ويُفاجا الجميع بان طبيبا ظهر من وسط الحضور . واكتشف ان الطفل لم يزل علي قيد الحياة. امامه فرصة واحدة للحياة. وهي ان نعجل بالتبرع له بالدماء. الكل نسي فجاة التلاوم و العتاب. و الكل قرر ان يفعل ما هو صواب . لانقاذ الطفل الذي ظن انه مات. الفرصة لم تزل بالباب . شريطة ان نفكر فيما هو آت .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق