تشير الدلائل المتوافرة الي ان القضية الفلسطينية سوف تستعيد مكانتها ضمن اهم عناوين العام الجديد. حيث ستشهد تطورات مهمة _قد تكون حاسمة_ جراء الصراع بين السعي الاسرائيلي المحموم لاغلاق ملف القضية , و الجهد الفلسطيني المقابل لاحيائه.
' 1 '
ادري ان مصطلح ' المصالحة الفلسطينية ' جري ابتذاله , بعدما استخدم عنوانا للقاءات ومشاورات عدة , اريد بها تمييع المصالحة وتعطيلها. وبعدما توسطت لاجلها اطراف عرفنا لاحقا انها لم تكن محايدة او نزيهة , وانها كانت تتحرك في اطار المخطط الاسرائيلي الرافض للمصالحة , ما لم تتم بعد استسلام غزة وتركيعها. '
المتغيرات التي حدثت في الاجواء وعلي الارض تعطي الانطباع بالتفاؤل في ملف المصالحة الفلسطينية , وتوحي بان اوان الكلام الجاد حول الموضوع قد حَلّ '
ورغم ذلك , فانني ازعم ان الكلام الجاد حول المصالحة سوف يجري في العام الحالي , وان زيارة السيد محمود عباس للقاهرة الاسبوع الماضي كانت بمثابة خطوة في ذلك الاتجاه. واذا سالتني لماذا التفاؤل بما يمكن ان يتم انجازه هذا العام؟ فردّي ان المتغيرات التي حدثت في الاجواء وعلي الارض تعطي ذلك الانطباع , وتوحي بان اوان الكلام الجاد حول الموضوع قد حَلّ.
لا انكر انني كنت احد الذين يتشككون في امكانية وجدوي المصالحة بين حركتيْ فتح وحماس , لان الرئيس محمود عباس _الذي يفترض انه يراس منظمة التحرير ويقود حركة فتح_ يتبني موقفا يراهن فيه علي الحل السياسي ويستهجن فكرة المقاومة ويرفضها , في حين ان حركة حماس تستمد شرعيتها من تبنيها لخط المقاومة , وتعتبر السلطة التي تمارسها في القطاع احد اوجه المقاومة ولا يُلغي الاوجه الاخري , بدليل انها تحتفظ بسلاحها وقد استخدمته في صد الاجتياحات الاسرائيلية , جنبا الي جنب مع حركة الجهاد الاسلامي وعناصر المقاومة الاخري.
افهم ايضا ان الطرفين لم يغيرا من موقفيهما , لكن الذي تغير هو المعطيات الحاصلة علي الارض و التي تفرض علي الطرفين ان يتلاقيا دون ان يتنازل كل منهما عن موقفه. وهذه المعطيات تتوزع علي الجانبين الاسرائيلي و الفلسطيني , الي جانب ان هناك متغيرات اخري مهمة علي الصعيدين الاقليمي و الدولي ينبغي الا نغفلها.
' 2 '
اسرائيليا لم يعد هناك شك في ان موضوع الدولة الفلسطينية وحل الدولتين استبعد تماما من الاجندة الاسرائيلية. وان كل الوعود التي قدمت و الاتفاقات التي تمت مع الفلسطينيين من خلال التفاهمات السياسية , لم تكن سوي فخاخ اريد بها كسب الوقت وتخدير الفلسطينيين لتغطية عملية التهويد , و المضي في الانقلاب الجغرافي و السكاني الذي يحدث علي الارض.
وفي الوقت الذي ظلت تتمدد فيه اسرائيل علي الارض , فانها اناطت بالسلطة في رام الله وجهازها الامني الذي ينفق عليه ثلث الموازنة مهمة قمع الجماهير الفلسطينية , ومنع انتفاضها وثورتها في مواجهة التغول و العبث الاسرائيلييْن. وهو ما نجحت فيه حتي الآن. الا ان استمرار ذلك النجاح ليس مضمونا , خصوصا ان مظاهر الغضب الفلسطيني في الضفة تعددت خلال الاشهر الاخيرة , حتي اصبح الحديث متواترا عن انتفاضة فلسطينية ثالثة , وعن ربيع فلسطيني تهب رياحه استلهاما للربيع العربي.
وقد تزامن ذلك مع تسارع خُطي الاستيطان الذي قيل انه بمناسبة الانتخابات البرلمانية التي ستجري في 22 يناير/كانون الثاني الحالي. وقيل انه جزء من الرد الاسرائيلي علي لجوء السلطة الفلسطينية الي طلب عضوية الامم المتحدة وقبول الطلب. وهي سياسة يتوقع لها ان تستمر خلال المرحلة القادمة , لان التنافس في الانتخابات حاصل بين اليمين و اليمين وليس بين اليمين و اليسار.
لقد اصبح يقيم في الضفة الغربية الآن 340 الف اسرائيلي في المستوطنات التي تم بناؤها , اما القدس الشرقية التي يتردد ذكرها في خطب القيادة الفلسطينية باعتبارها عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة فقد اصبح يقيم بها نحو مائتيْ الف آخرين , يتوزعون علي عشرة احياء استيطانية تمت اقامتها تباعا. الي غير ذلك من الخطي التي لا تدع مجالا للشك في ان ثمة قرارا اسرائيليا بشطب فكرة الدولة الفلسطينية من الاجندة الاسرائيلية.
ورغم ان اسرائيل ضامنة لانحياز الادارة الاميركية لها , وضمانها للكونغرس اشد , فانها تدرك ان الرئيس باراك اوباما سيظل مشغولا بمشكلات بلاده الاقتصادية خلال العامين الاولين من ولايته الثانية , وهو ما قد يفسح المجال امامها لممارسة العربدة في المنطقة. وليس معروفا في هذه الحالة ما اذا كان بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي سيحاول ان يسترد اعتباره بعمل عسكري ضد غزة التي تحدَّته وكسرت كبرياءه مرتين. او يحقق رغبته في توجيه ضربة عسكرية الي ايران , التي اعتبر مشروعها النووي علي راس تحديات اسرائيل الاستراتيجية. وفي كل الحالات فان الفترة القادمة ستظل مفتوحة لمختلف الاحتمالات امام مغامرات اليمين الاسرائيلي , وربما القي بعضها بظلاله علي اجواء المصالحة.
' 3 '
المتغيرات علي الساحات الاخري الفلسطينية و العربية و الدولية ايجابية ومهمة , وتتلخص فيما يلي :
فلسطينيا , اضع صمود غزة في المرتبة الاولي , واضع التطور النوعي في سلاح المقاومة في مرتبة موازية , وهو التطور الذي مكن عناصر المقاومة من اطلاق صواريخ وصلت الي تل ابيب , حتي ولو لم تصب احدا فيها , لان فكرة وصول صواريخ المقاومة الي عاصمة الدولة العبرية تمثل هاجسا مرعبا يؤرق القيادة الاسرائيلية , فضلا عن انه يصيب في مقتل فكرة الامن الاسرائيلي.
واحسب ان هذه النقطة بالذات كانت وراء مسارعة اسرائيل الي طلب وقف اطلاق النار , اثر عدوانها علي القطاع الذي حمل اسم ' عمود السحاب ' ' 14_22 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 ' , كما انها كانت وراء مبادرات حُسن النية التي قدمتها آنذاك , مقابل وقف اطلاق الصواريخ من غزة , في غير حالات العدوان بطبيعة الحال. '
ازعم ان ثورة 25 يناير كانت اهم متغير اقليمي لصالح القضية الفلسطينية. ذلك انها المرة الاولي التي تبنت فيها مصر موقفا مسؤولا ونزيها ازاء القضية , تجاوزت به تلك المرحلة المخجلة التي صار فيها رئيس مصر كنزا استراتيجيا لاسرائيل '
وقد اشار اليها الرئيس الاسبق لجهاز الموساد افرايم هليفي في مقال نشرته صحيفة يديعوت احرونوت , ' من تلك المبادرات توسيع مساحة القطاع البحري امام شاطئ القطاع لصيد الاسماك , و السماح بتجديد اسطول الحافلات و الشاحنات في القطاع , كذلك السماح باستيراد مواد البناء من اسرائيل ' .
ومن الملاحظات المهمة التي ذكرها الرجل انها كانت المرة الاولي التي اجرت فيها اسرائيل مفاوضات مع حركة حماس لتخفيف الحصار عن غزة , بوساطة مصرية بطبيعة الحال. وكانت اسرائيل في السابق تخاطب السلطة في رام الله فقط , وترفض الحديث مع حركة حماس.
يضاف الي ما سبق متغير سياسي آخر له اهميته , يتمثل في قبول دولة فلسطين عضوا في الجمعية العامة للامم المتحدة , استجابة للطلب الذي قدمه الرئيس محمود عباس ولقي تاييدا واسعا من قبل المنظمة الدولية. وعدّ ذلك الانجاز الوحيد الذي يحسب لابو مازن بعد الاخفاقات التي لاحقته في كل محاولات تفاوضه مع الاسرائيليين , حتي لم تعد لديه اوراق يستخدمها او يراهن عليها.
عربيا , ازعم ان ثورة 25 يناير كانت اهم متغير اقليمي لصالح القضية الفلسطينية. ذلك انها المرة الاولي منذ توقيع اتفاقية السلام مع اسرائيل عام 1979 التي تبنت فيها مصر موقفا مسؤولا ونزيها ازاء القضية , تجاوزت به تلك المرحلة المخجلة التي صار فيها رئيس مصر كنزا استراتيجيا لاسرائيل.
وحين طويت هذه الصفحة فان مصر الرسمية فتحت ابوابها لممثلي المقاومة , وهم الذين لم يروا في السابق سوي مصر الامنية دون غيرها. وفي ظل ذلك الوضع المستجد راينا خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لفتح ورمضان عبد الله الامين العام لحركة الجهاد ورفاقهما في قيادتيْ الحركتين , في لقاء مع رئيس الجمهورية , بعد ان كان محظورا عليهم دخول اي مؤسسة رسمية باستثناء مبني المخابرات العامة. كما راينا رئيس الوزراء المصري الدكتور هشام قنديل مجتمعا مع السيد اسماعيل هنية وغيره من المسؤولين في قطاع غزة.
لم يكن ذلك هو المتغير الوحيد وان كان الاهم , وانما اسهمت تلك الاجواء في كسر حصار غزة ' وليس الغاؤه ' , فزار القطاع امير قطر ثم وفد من وزراء الخارجية العرب , كما اصبحت الوفود و المساعدات تصل الي غزة دون عقبات تذكر.
هذه الاجواء كان لها صداها في محيط الجامعة العربية , حيث وافق وزراء الخارجية علي اقتراح للامين العام الدكتور نبيل العربي باعادة النظر في قرارات الجامعة السابقة المتعلقة بالتسوية السلمية مع اسرائيل. وفي المقدمة منها المبادرة التي اطلقتها قمة بيروت في عام 2002 ولم تحقق شيئا منذ ذلك الحين , وقد فهمت ان هذه الخطوة سوف تتلوها خطوات اخري , ربما كان في مقدمتها سحب المبادرة وتبني موقف اكثر حزما في مواجهة السياسات الاسرائيلية المتصلة بالاستيطان و التهويد.
دوليا , كان تصويت 138 دولة في الجمعية العامة لصالح قبول عضوية فلسطين في الامم المتحدة دليلا قويا علي تراجع التاييد الدولي لاسرائيل , ووقوفها علي ابواب عزلة سياسية لم تعرفها من قبل.
يشار الى في هذا الصدد ان الدول الاعضاء في مجلس الامن _باستثناء الولايات المتحدة بطبيعة الحال_ عارضت في خطوة نادرة المشروعات الاستيطانية الاخيرة التي اعلنتها اسرائيل. ونشرت الدول الاوروبية الاعضاء في المجلس ' فرنسا وبريطانيا و البرتغال والمانيا ' اعلانا مشتركا اكدت فيه معارضتها الشديدة لتلك المشاريع , وذكرت فيه انها تشكك في رغبة اسرائيل في التفاوض , فضلا عن انها خطوة غير شرعية في نظر القانون الدولي. وباسم دول المجلس الاعضاء في حركة عدم الانحياز ' اذربيجان وكولومبيا و الهند وغواتيمالا و المغرب وباكستان وجنوب افريقيا ' , ندد سفير الهند بقرارات الحكومة الاسرائيلية , وطالب بوقف كل نشاط استيطاني علي الفور.
' 4 '
' الدور المصري المفترض في المصالحة سوف يتجاوز نقل وجهات النظر ومحاولة التقريب بينها , الي محاولة بلورة مشروع محدد للمصالحة يقدم الي الطرفين '
هذه الخلفية تسوغ لنا ان نقول ان القضية الفلسطينية اصبحت الآن في وضع افضل نسبيا. وان اختراقات حدثت في الافق المسدود الذي سرب الينا احباطا مستمرا طوال السنوات التي خلت , ولم يمنعنا من الاستسلام للياس سوي تلك الومضات المضيئة التي كانت تلوح في الفضاء مع اخبار المقاومة الفلسطينية و الصمود الباسل لاهل قطاع غزة.
لقد ظل انقسام الصف الفلسطيني هو الثغرة المؤلمة في المشهد , الامر الذي عاني منه المسؤولون في حركتيْ فتح وحماس , وقد ادركوا ان الوقت قد حان لحديث جاد حول المصالحة , تقوم فيه مصر بدور نزيه وفاعل. واذا صحت معلوماتي في هذا الصدد فان الدور المصري المفترض في هذه الحالة سوف يتجاوز نقل وجهات النظر ومحاولة التقريب بينها , الي محاولة بلورة مشروع محدد للمصالحة يقدم الي الطرفين , يسترشد بوجهة نظر كل طرف ومقترحاته.
والسيناريو المفترض في هذه الحالة يقضي بان يطالب كل طرف بتقديم رؤيته ومقترحاته الي الوسيط المصري , الذي سيتولي دراسة ما يتلقاه ويستخلص منه مشروعا يكون ملزما لفتح وحماس معا. كاننا بصدد الدخول في شيء اقرب الي التحكيم الذي يرتضي فيه طرفان الاحتكام الي ثالث موثوق فيه , ويمكِّن هذا الاخير من الاستماع الي حجج كل طرف علي حدة. وبعد مناقشتها يصدر الحَكَمُ قرارَه الذي يلزم الطرفين.
حين سالت في التفاصيل , قيل لي ان المشاورات لم تدخل بعدُ طور بلورة الافكار , وان لقاء تمهيديا تم بين ابو مازن وابو الوليد , سيُطلب بعده من كل طرف ان يقدم مشروعه , لتدور العجلة بعد ذلك ايذانا بميلاد المصالحة المرجوة , و التي ارجو ان تكسر الشعور بالتشاؤم من رقم 13 المعلق علي جدران العام. الا ان ابو الوليد يبدو اكثر تفاؤلا , لانني سمعت منه في الدوحة قبل ايام قوله ان العام الجديد لن ينتهي قبل ان تتم المصالحة. قولوا ان شاء الله .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق