نترك الغذاء و نسعى وراء الامن الفكري و الاعلامي فهمي هويدي



حين يصبح ' الامن الفكري ' عنوانا مدرجا علي جدول اعمال اهل السياسة العرب , فينبغي ان نقلق ونتوجس شرا. ذلك ان المصطلح ذاته يثير الشك ولا يبعث علي الارتياح , ثم ان تحويله الي ملف يتولاه وزراء الداخلية بوجه اخص يحول الشك الي خوف. اقول ذلك بمناسبة اجتماع اولئك الوزراء ' امس و اليوم ' بالعاصمة السعودية الرياض , في الدورة الثلاثين لمجلسهم التابع لجامعة الدول العربية. وهو المجلس الذي ظل يتصدر واجهة العمل العربي المشترك طوال الثلاثين سنة الاخيرة. وبدا ذلك الاستمرار ظاهرة مثيرة للانتباه في ظل الخلافات و التجاذبات السياسية التي مر بها العالم العربي خلال تلك الفترة. حيث كان مفهوما لدي كل الاطراف وقتذاك , انه لا يعلو صوت فوق صوت الامن. ولم يكن خافيا علي احد ان المقصود هو امن الانظمة و الحكام و المسيطرين بالدرجة الاولي , وليس امن الشعوب بطبيعة الحال. ازاء ذلك فقد ارتفعت اسهم القيادات و الاجهزة الامنية , بعدما اصبحت الاداة التي تحقق من خلالها القيادة السياسية اهدافها. وفي مصر فان تلك الاهداف تراوحت بين تامين اهل الحكم وقمع المعارضين و الاشراف علي تزوير الانتخابات وترتيب عملية توريث السلطة.
ليس ذلك فحسب وانما في الوقت الذي جري فيه تنشيط وتعزيز دور مجلس وزراء الداخلية العرب لم تحظ معاهدة الدفاع المشترك و التعاون الاقتصادي الموقعة عام 1950 اي منذ اكثر من 60 عاما باهتمام او عناية تذكر , الامر الذي بدا قاطعا في التدليل علي امن الانظمة و الحكام ظل طول الوقت مقدما علي ما عداه , بما في ذلك الدفاع المشترك او التعاون الاقتصادي المنشود. و السبب في ذلك مفهوم , اذ ان الدفاع المشترك يهم الاوطان و التعاون الاقتصادي في مصلحة الشعوب , وذلك كله يتراجع امام امن الحكام و الانظمة.

اذا صح ذلك التحليل فهو يسوغ لنا ان نقول بان مجلس وزراء الداخلية العرب ينتمي في جوهره الي مرحلة ما قبل الربيع العربي التي تم تجاوزها وطويت صفحتها. وليس ادل علي ذلك من ان عموديه الاساسيين كان ولايزال احدهما في تونس التي رحب نظامها الاستبدادي في عهد بن علي بان تحتضن بلاده المقر الرئيسي للمجلس. اما الثاني فقد تمثل في مكتب اقيم بالقاهرة في عهد مبارك وكان يقوم بالدور الرئيسي خلال انشطته تحت مسمي غامض هو المكتب العربي للاعلام الامني ' ! ' واذا جاز لنا ان نتصارح اكثر فلا مفر من الاعتراف بان ذلك الدور ظل محصورا في ملاحقة الاسلاميين الناشطين و المعارضين المعتدلين منهم و المتطرفين. اما بقية المهام التي يقوم بها مجلس وزراء الداخلية العرب فانها كانت اما شكلية اوثانوية , اوانها كانت للتغطية علي دوره الرقابي الرئيسي. وحسب معلوماتي فان مكتب الاعلام الامني في القاهرة ظلت تديره عناصر من جهاز امن الدولة في مصر , كما ظل يعتمد علي تقارير الداخلية المصرية بالكامل. وقد تم تزويد المكتب بمنظومة اتصالات متطورة للغاية , لتبادل المعلومات الخاصة بالناشطين الاسلاميين في انحاء العالم العربي.

ان مصطلحي الامن الفكري و الاعلام الامني ليسا سوي غطاءين استخدمت فيهما اللغة للتمويه و التستر علي المهمة المباحثية التي من اجلها انشئ المجلس , و التي استهدفت الاسلاميين بشكل اساسي. ولا تفوتنا في هذا الصدد ملاحظة ان تنشيط لقاءات وزراء الداخلية العرب بدا في عام 1977 , متزامنا مع تصاعد مؤشرات ما سمي آنذاك بالصحوة الاسلامية , وان انشاء المجلس المذكور تم رسميا في عام 1982 , بعد ثلاث سنوات من نجاح الثورة الاسلامية في ايران. وقلق دوائر عدة في داخل العالم العربي وخارجه من احتمالات انتقال شرارات الثورة الي دول اخري. من ثم برزت اهمية التعاون الامني بين الدول العربية , الذي جرت ماسسته. وحين تم ذلك انشئ المجلس المذكور وانيطت به انشطة اخري تتعلق بمكافحة الجريمة وشئون المخدرات و الشرطة الجنائية وغير ذلك.

اختلف الامر تماما حين قامت الثورة في تونس ومصر بوجه اخص , واصبح الاسلاميون شركاء اساسيين في السلطة في البلدين ' وزير الداخلية في اول حكومة للثورة بتونس ' علي العريض ' كان سجينا سابقا امضي عشر سنوات في الحبس الانفرادي وهو الآن رئيس الوزراء ' . وهو ما قوض الفكرة المباحثية الاساسية التي قام عليها المجلس , من ثم فانه اصبح مطالبا بان يبحث عن دور ايجابي يقوم به.

اننا يجب ان نحتفي باي تعاون عربي مشترك شريطة ان يتوافر له امران , اولهما ان يصب في صالح الشعوب العربية وتطلعاتها. ثانيهما ان تكون هناك اولويات لذلك التعاون , حيث لا يعقل ان تواجه بعض شعوبنا ازمات كبري في امنها الغذائي مثلا في حين تسلط الاضواء علي الامن الفكري و الاعلامي. وهو ما وضعنا مؤخرا امام مفارقة وجدنا فيها ان ' اصدقاء اليمن ' اجتمعوا في لندن , في حين ان حراس الامن الفكري اجتمعوا في الرياض.

ليست هناك تعليقات :