بين خطاب الطرب و الاقناع فهمي هويدي


حين وجه الرئيس محمد مرسي خطابه الي الامة في اعقاب اعلان نتائج الاستفتاء علي الدستور , ' مساء الاربعاء 27/12 ' وتضمن من الانشاء اكثر ما تضمن من الرؤية للمرحلة الجديدة , فضلت عدم التعليق علي مضمونه , وقلت لابد انه اجل الكلام المهم الي خطبة افتتاح مجلس الشوري بعد انتقال سلطة التشريع كاملة اليه. لذلك انتظرت المناسبة , وحين قيل لي ان الرئيس بدا خطبته قبل ظهر السبت 29/12 تركت ما بين يدي من عمل وحرصت علي ان اتابعه منذ اللحظة الاولي , متوقعا الكلام المهم الذي انتظرته. ولا اخفي انني اصبت بالاحباط حين انتهي الخطاب الذي لم اجد فيه الكلام المنتظر , حتي انني رفضت التعليق عليه حين سالتني عنه زميلة صحفية في جريدة الاخبار , وآثرت ان اسمعه مرة اخري حين يعاد بثه حتي اكون عنه انطباعا غير متاثر بمشاعر الاحباط التي انتابتني , وحين حدث ذلك سمحت لنفسي ان اسجل عليه اربع ملاحظات هي :

_ انه حفل بالتعبيرات الانشائية التي تحدثت عن الشعب العظيم و الثورة العظيمة ومصر التي لن تركع ابدا وعرفت الله منذ فجر التاريخ وعاشت في تلاحم ضم كل مكونات الوطن , الذي هو بحاجة الي كل السواعد وكل الاطياف -- .الخ. وهي المعاني التي كررها الرئيس في اكثر من مناسبة. ولا اظن انها اضافت كثيرا الي معارف السامعين.

_ انه مس بصورة مخففة لم تتجاوز عبارة الدعوة الي الحوار حقيقة الازمة السياسية التي تمر بها مصر , في ظل الانقسام بين القوي السياسية و الكتل الجماهيرية الذي اتضح في التصويت علي الاستفتاء , في حين ان ذلك امر كان يستحق منه اهتماما اكبر.

_ انه ركز علي المشهد الاقتصادي وكان جيدا ان اعلن عن تشكيل مجلس للتنمية الاقتصادية برئاسته لتاكيد اهتمامه بالموضوع , الا انه حرص علي ان يقدمه بصورة وردية تبعث علي التفاؤل و الثقة في المستقبل. وضرب لذلك امثلة عدة كان واضحا انها تقارير للجهات الاقتصادية المختصة التي حرصت علي ان تبرز المؤشرات الايجابية وتشرح معالم الجانب المضيء و المتفائل من المشهد.

_ انه في سعيه لاشاعة التفاؤل تحدث عن بعض المشروعات المستقبلية بعيدة المدي , التي من شان تنفيذها ان يقلب المعادلة ويعيد الي مصر مكانتها وريادتها و -- . و -- . و -- .الخ.

لم استرح للخطاب الذي وجهه الرئيس , ونقلت انطباعي هذا لاحد مساعديه , فكان رده انه اراد موازنة الصورة الكئيبة و القاتمة التي روجت لها وسائل الاعلام في الآونة الاخيرة مدعية ان مصر علي وشك الافلاس ونظامها الاقتصادي موشك علي الانهيار وثورة الجياع علي الابواب. لذلك فقد حرص الرئيس علي ان يقول صراحة ان الذين يتحدثون عن افلاس مصر هم المفلسون , وهي العبارة التي استقبلت بعاصفة من التصفيق.

تفهمت الفكرة وتحفظت عليها. ذلك ان الرئيس اراد ان يواجه غلوا وافراطا في التشاؤم بافراط مقابل في التفاؤل. وكان ذلك خطا كبيرا. ولم اكن وحدي الذي لاحظ ذلك , لانني تلقيت اتصالات من اكثر من واحد لم يستريحوا الي هذه اللغة , وقال لي احدهم ان الرئيس في تفاؤله بدا وكانه يتحدث عن بلد آخر غير مصر.

مشكلة اللغة التي افرطت في التفاؤل , ليس فقط انها لا تقنع الناس ولا تنفذ الي عقولهم وقلوبهم , وغير أنها ايضا تفقد ثقة الناس في شخص الناطق , في صدقه وشفافيته. لانهم حين يسمعون كلاما متفائلا ويرون ويعيشون واقعا علي النقيض مما سمعوا به , فانهم سيصدقون واقعهم وسيكذبون آذانهم ولن يطمئنوا الي ما يقال لهم في المستقبل.

لقد تمنيت ان يقدم الرئيس تصورا لحل الازمة السياسية , مصحوبا باجراءات وخطوات سوف يقدم عليها لاعادة اللحمة الي الجماعة الوطنية. تمنيت ايضا ان يصارحنا بحقيقة الموقف الاقتصادي , الذي ليس علي وشك الافلاس حقا , غير أنه يواجه ازمة ينبغي ان يصارح الشعب بحجمها الحقيقي , ليس فقط لتاكيد الشفافية وتعزيز الثقة , ولكن ايضا لكي يتهيا الراي العام لاستقبال القرارات الاقتصادية التي سوف تضطر الحكومة لاتخاذها في المستقبل , و التي ستحمل الناس باعباء لا ينبغي ان يفاجاوا بها.

تمنيت ان يوجه الرئيس نداء الي الناس بعد ان يصارحهم بالحقيقة يقول لهم فيه تعالوا نقتسم الهم او الفقر , ثم يحدثهم عن تصوره لمواجهة الازمة , لا ان يدغدغ مشاعرهم بمعلومات تخدرهم وتسرب اليهم شعورا مؤقتا بالسكينة و الاطمئنان.

ان الخطاب الانشائي لم يعد يقنع الناس , الذين شبوا عن الطوق , وانخرطوا جميعا في الشان السياسي بعد ثورة 25 يناير , وحين استعادوا وعيهم وحضورهم بعد طول غياب فانهم اصبحوا اكثر استعدادا للمشاركة وتحمل المسئولية , وباتوا بحاجة الي خطاب يقنعهم وليس فقط يطربهم .

ليست هناك تعليقات :