ما لم تحدث مفاجاة غير متوقعة في العالم العربي خلال العام الجديد ستظل ثلاثة من اسئلة المصير معلقة علي جدرانه طول الوقت. واحد يخص الربيع العربي , و الثاني محوره سوريا , اما الثالث فلن يغادر فلسطين.
' 1 '
كما انه مبكر جدا الادعاء بان العالم العربي سيصنع مصيره وحده , فليس بوسع احد منا ان يدعي انه سيتصرف بمعزل عن محيطه. ولا اظن اننا سنختلف كثيرا علي حقيقة ان الولايات المتحدة الاميركية لا تزال هي ' الراعي الرسمي ' للعالم العربي. وقبل ايام غمزنا باتريك سيل الكاتب البريطاني المتخصص في الشرق الاوسط حين تحدث عن نفوذ اسرائيل الهائل في الولايات المتحدة _خصوصا في الكونغرس_ وابدي دهشته من ان ' عربا كثيرين ' لا يزالون يطالبون بحماية الولايات المتحدة , وهو ما اعتبر مفارقة وضربا من الجنون. ' الحياة اللندنية 4/1 ' .
حتي هذه الرعاية المفترضة لن تكون ضمن اجندة الرئيس الاميركية في فترة حكمه الثانية الاخيرة. لسبب جوهري هو انه سيظل مشغولا طيلة السنتين القادمتين بانقاذ اقتصاد بلده المتهاوي , الي جانب بعض القضايا الاستراتيجية الكبري مثل التعامل مع التحدي الصيني وترتيب الاوضاع مع روسيا.
'
ليس بوسع احد منا ان يدعي ان العالم العربي سيتصرف بمعزل عن محيطه , ولا اظن اننا سنختلف كثيرا علي حقيقة ان الولايات المتحدة الاميركية لا تزال هي ' الراعي الرسمي ' للعالم العربي
'
لن تغيب الولايات المتحدة عن العالم العربي بطبيعة الحال , ولكنها قد تقترب منه في تعاملها مع الملف النووي الايراني الذي يحتل اولوية في اجندة الحكومة الاسرائيلية , ولا يزال يثير المخاوف في دول الخليج. وفي حدود علمي فان التوجس الخليجي تزايد مع حلول العام الجديد بعدما لاحظت المراصد السياسية رسائل الغزل النسبي التي تم تبادلها في الآونة الاخيرة بين واشنطن وطهران.
وكان الرئيس اوباما قد استهل ولايته الاولي ' عام 2009 ' بالدعوة الي حوار ايجابي مباشر وغير مشروط بين البلدين , وهي الرسالة التي ترددت بذات اللغة عقب انتخابه لولايته الثانية , وقد لوحظ ان وزير خارجيته الجديد , وكذلك وزير دفاعه المرشح من مؤيدي ذلك الحوار المباشر , الذي يتصور اهل السياسة في الخليج انه اذا توصل الي اتفاق فسوف يكون علي حساب الدول الخليجية.
وفي السيناريو المرشح ان فرصة الحوار المباشر ستكون مرجحة في النصف الثاني من العام , بعد انتخاب رئيس جديد لايران , خلفا للرئيس الحالي احمدي نجاد الذي ستنتهي ولايته ولا يجيز له الدستور ان يترشح لولاية ثالثة , يقدرون ايضا ان اجراء المحادثات المباشرة في النصف الثاني من العام ستتم في اجواء مغايرة , يرجح ان تختلف فيه حسابات ايران الاستراتيجية , في ظل الانهيار المتوقع للنظام السوري الذي من شانه ان يضعف الموقف الايراني.
لن يكون العالم العربي بعيدا ايضا عن التطورات التي يفترض ان تحدث في تركيا. واهمها مسعي انهاء المشكلة الكردية بعد استعصاء دام نحو 30 عاما ' اكراد تركيا يتجاوز عددهم 15 مليونا ' . اذ في الايام الاولي من العام الجديد اعلن عن لقاء تم مع عبد الله اوجلان الزعيم الكردي المسجون لوضع اللمسات النهائية للاتفاق الذي يفترض ان ينتهي بنزع سلاح حزب العمال الكردستاني واغلاق ذلك الملف الشائك , وهذه الخطوة سيكون لها صداها القوي في اوساط اكراد العراق وايران وسوريا. ومعروف ان الاخيرة حاولت ان تستخدم ورقة الاكراد المقيمين لديها في ابتزاز تركيا واثارة المتاعب لها.
اذا جاز لنا ان نتحدث عن ' رعاية ' اميركية للمنطقة ومشروع ايراني وآخر تركي يحومان حول العالم العربي , فاننا لن نستطيع ان نغفل المشروع الاسرائيلي , الذي سنفرد له لاحقا وقفة خاصة. وستظل هذه الخلفية بمثابة محطات يتعين للمرء بها قبل الدخول الي العالم العربي , الذي لا يزال مشروعه جنينيا في عالم الغيب.
' 2 '
قصدت وصف المشروع العربي بانه ' جنيني ' , في اشارة الي اننا نتحدث عن حقيقة وليس وهما , رغم انها لم تتبلور بعد , ولم نعرف لها ملامح بعد , كاي جنين دبت فيه الروح وان لم يعرف له رسما او اسما.
ما اعنيه بوضوح ان الذي يتصورون ان الربيع العربي مقصور علي دول دون اخري , او انه مجرد هبَّة عارضة او نوع من ' الفوضي الخلاقة ' , هؤلاء يغمضون اعينهم عن الحقيقة ويخدعون انفسهم. ذلك ان الربيع ترددت اصداؤه في كل بلد عربي , اذ الثابت ان الجماهير العربية فتحت اعينها واستعادت وعيها. وادركت ان لها حقوقا ينبغي ان تصان وعوجا في واقعها ينبغي ان يقوم. وتعاملت مع ذلك بدرجات متفاوتة من الجراة. فمن لم يستطيع ان يرفع صوته ويتظاهر في الشارع , فامامه ابواب التواصل الاجتماعي المفتوحة امام الجميع , بوسعه ان يدخل اليها وان يخاطب الجميع من خلالها.
'
ازعم ان العالم العربي من اقصاه الي اقصاه صار موزعا بين ربيع صاخب وآخر صامت , الاول رفع صوته وتكلم , و الثاني اوصل صوته دون ان يتكلم , الاول سمعناه مدويا و الثاني قراناه ووجدناه بدوره مدويا
'
من هذه الزاوية ازعم ان العالم العربي من اقصاه الي اقصاه صار موزعا بين ربيع صاخب وآخر صامت. الاول رفع صوته وتكلم , و الثاني اوصل صوته دون ان يتكلم. الاول سمعناه مدويا و الثاني قراناه ووجدناه بدوره مدويا. جميعهم اعربوا عن عدم رضاهم عن واقعهم , فمنهم من دعا الي تغيير الانظمة. وحين يدقق المرء في الصورة سيجد ان دعوات التغيير مسموعة بشدة في المشرق و المغرب الذي شهد له ما اسميناه الربيع الصاخب. في حين ان اصوات الاصلاح تتردد في دول الخليج بوجه اخص , التي ازعم انها اصبحت معقلا للربيع الصامت.
واذ تابع الجميع ما شهدته شوارع المشرق و المغرب من مليونيات وتجاذبات واشتباكات , فان تعامل دول الخليج مع تجليات الربيع الصامت تراوح بين فض المظاهرات التي خرجت الي الشوارع في البحرين و الكويت , و الملاحقة الامنية التي شهدتها دولة الامارات وسلطنة عمان , و الخلط بين الاساليب الامنية ومحاولة استرضاء الجماهير كما حدث في السعودية , التي عكست موازنة السنة المالية الجديدة ذلك التوجه الاخير , حين خصصت مبالغ طائلة للتعليم وتوفير الخدمات الطبية وانشاء المدن الرياضية ودور الرعاية الاجتماعية , كما خصصت لاول مرة رواتب للباحثين عن عمل.
علي صعيد آخر سيمر الربيع العربي في العام الجديد بمنعطف غاية في الاهمية , ازعم انه سيؤثر علي مستقبل الاسلام السياسي في المشرق و المغرب. فاما ان يمنحه دفعة الي الامام او يؤدي الي تراجعه وانكساره. يتمثل ذلك المنعطف في الانتخابات التي ستجري في فترة الصيف بكل من مصر وتونس. ذلك ان نتائج تلك الانتخابات ستحدد مدي رضا الشعوب عن اداء الحركة الاسلامية في البلدين. حيث ازعم ان النجاح سيكون له اثره البعيد في العالم العربي , اما الفشل فسيكون مدويا , وسيخرج الاسلام السياسي من اللعبة لعدة سنوات مقبلة.
' 3 '
علي صعيد آخر لعلي لا ابالغ اذا قلت ان العنوان السوري سيكون اهم عناوين السنة الجديدة , لان السقوط الوشيك للنظام قد يؤدي الي اعادة رسم خريطة المشرق العربي , وربما الي احداث تغيير في توازنات الشرق الاوسط.
وللعلم فان ذلك البلد الذي يبلغ تعداد سكانه 22 مليون نسمة يضم اغلبية من اهل السنة ' 75 في المائة ' والي جوارهم علويون ' 13 في المائة ' وشيعة واسماعيليون ' 3 في المائة ' ودروز ' 3 في المائة ' ومسيحيون ' 10 في المائة ' واكراد ' 3 في المائة ' , ورغم ان العربية هي لغة الدولة فان المجتمع يضم آخرين يتحدثون اللغة الكردية و التركمانية و الشركسية.
خلال اكثر من 40 سنة من الحكم الاستبدادي , استند النظام علي اجهزة الامن و الطائفة العلوية , حتي انه ربط مصيره بمصيرها , وصارت الاجهزة الامنية و الشبيحة تعتمد علي افراد تلك الطائفة. وسقوط النظام سيكون له تاثيره علي خريطة الدولة السورية , ومحيطها. الا ان هناك من يتحدث عن احتمال تقسيمها بين السنة و العلويين و الاكراد. وهناك سيناريوهات اخري تصور مستقبل الدولة. فمن قائل انها ستصبح دولة ضعيفة تسيطر علي العاصمة فقط مثل افغانستان , وقائل انها ستكون دولة فاشلة كالصومال , او دولة مقسمة مثل يوغسلافيا. او دولة طوائف مثل لبنان.
'
التداعيات التي سيرتبها سقوط النظام في داخل سوريا وفي محيطها تشير بوضوح الي ان ذلك المصير لن يكون نهاية لمشكلة سوريا فقط , وانما سيكون ايضا بداية لمشكلات اخري لسوريا وللدول المحيطة
'
من ناحية ثانية , فان سقوط النظام السوري سيكون له صداه المباشر في لبنان , وسيضعف بشدة من قوة حزب الله الذي كان يتلقي الامداد الايراني عبر سوريا. واضعاف حزب الله سيضعف ايران استراتيجيا , كان يمثل تهديدا لاسرائيل خصوصا بعدما عرف ان لدي الحزب صواريخ يمكن ان تضرب العمق الاسرائيلي , واضعاف ايران استراتيجيا سيغري اسرائيل بتدمير مشروعها النووي وهي مطمئنة. ولن يقتصر التاثير علي لبنان وايران ولكنه سيشمل العراق ايضا. الذي ينتظر السنة فيه فرصة الانتفاض ضد النظام القائم في بغداد , الذي يشعرون في ظله بالاضطهاد. وقد عبروا عن مشاعرهم مؤخرا حين تظاهروا في محافظة الانبار , وخرجوا رافعين اعلام الجيش السوري الحر.
اما الاردن الذي تتردد فيه اصوات الغضب ضد النظام بصوت مسموع ومتجاوز احيانا للخطوط الحمراء , فلن يكون بعيدا عن اصداء سقوط نظام دمشق , كذلك ليس معلوما كيف يكون الصدي في تركيا التي يسكنها حوالي 16 مليونا من العلويين اكثرهم ايدوا نظام الاسد وتظاهروا لصالحه في اكثر من مدينة , ومنهم من اشتبك مع عناصر الجيش الحر في القري الحدودية.
هذه التداعيات التي سيرتبها السقوط في داخل سوريا وفي محيطها تشير بوضوح الي ان ذلك المصير لن يكون نهاية لمشكلة سوريا فقط , وانما سيكون ايضا بداية لمشكلات اخري لسوريا وللدول المحيطة بها في الاقليم.
' 4 '
تلوح في الافق مؤشرات تدل علي ان العالم العربي مقبل في العام الجديد علي مجموعة من التحديات يطل منها شبح الفرقة و التشرذم. فاخشي ما اخشاه مثلا ان نكون بصدد تاجيج الصراع السني الشيعي. ذلك ان النظام الجديد في سوريا لن يكون متصالحا مع ايران او الشيعة الذين ساندوا نظام الاسد.
كما ان هناك حساسيات ازاء حزب الله في لبنان الذي لم تهدا فيه المشاعر الطائفية. وليس سرا ان السنة في العراق لهم مراراتهم ازاء الشيعة القابضين علي السلطة منذ سقوط صدام حسين. واذا اضفت الي ذلك ان بعض الدول النفطية المشتبكة مع ايران تغذي العداء للشيعة , وتحدثت في وقت سابق عن التصدي لما سمي بالهلال الشيعي , فلن نستغرب اذا قادنا كل ذلك الي مواجهة بين السنة و الشيعة ستحترق فيها اصابع الجميع.
'
اخشي ما اخشاه ان نكون بصدد تاجيج الصراع السني الشيعي , ذلك ان النظام الجديد في سوريا لن يكون متصالحا مع ايران او الشيعة الذين ساندوا نظام الاسد
'
لن استبعد ايضا صداما بين السلفية بمدرستيها الدعوية و الجهادية وبين تيارات الاعتدال الاسلامي الموجودة علي الساحة. ونحن نلاحظ مقدمات ذلك الصدام في تونس و المغرب و السودان وليبيا. وهي في مصر الآن تنافس لم يصل الي درجة الصدام بعد.
يلحظ المراقب ايضا مقدمات تنافر بين الملكيات ودول الخليج العربي من ناحية ودول الربيع من ناحية ثانية , وقد يصل الامر الي احتشاد تلوح به فكرة الاتحاد الخليجي الذي يفترض ان يطرح امره للبحث بين دول مجلس التعاون في منتصف العام الجديد. ولذلك التنافر قرائن ظهرت في الآونة الاخيرة , حين احتمي عدد من عناصر الانظمة التي سقطت ببعض الدول الخليجية , ومنها دول قدمت دعما قويا ماليا وسياسيا لتلك العناصر في الخارج , وامتداداتهم في الداخل.
اذا اضفنا الي ما سبق الصراع الحاد الذي تشهده دول الربيع العربي بين التيارات الاسلامية الصاعدة و القوي العلمانية و المدنية , فستصبح صورة العام الجديد مسكونة بمؤشرات غير مريحة كثيرا وغير مطمئنة.
بقي العنوان الفلسطيني الذي ازعم انه سيشهد تطورا مهما ومثيرا في العام الجديد , سنتوقف عنده ومعه في الاسبوع القادم باذن الله .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق