حين تحل ذكري الثورة المصرية في 25 يناير الحالي , يكون الرئيس محمد مرسي قد امضي في منصبه سبعة اشهر فقط , الامر الذي لا يسوغ لنا ان نصدر حكما منصفا علي تجربته , الا ان ذلك لا يمنعنا من ان نسجل بعض الملاحظات التي برزت خلال تلك الفترة.
' 1 '
ادري ان كلمة ' الانصاف ' لم تعد تلقي ترحيبا من جانب بعض العدميين , الذين يصرون علي ان الثورة اجهضت او سرقت. وان مصر انتكست حتي اصبحت اوضاعها اسوا مما كانت عليه في السابق , او الاسوا علي مدي تاريخها. وعند هؤلاء فان الهجاء وكيل السباب و الشتائم هو الموقف ' الموضوعي ' المقبول , وما عداه صار من تجليات الاخونة واصداء الفاشية الدينية التي يلوحون بها. وهذا اقتباس بسيط ومهذب من ادبيات خطاب شيطنة الآخر الذي صرنا نطالعه كل يوم في العديد من وسائل الاعلام.
اكثر ما يدعو الي الاسف ان امثال تلك السهام الملوثة التي يراد لها ان تستهدف السلطة القائمة يرتد اثرها علي الثورة المصرية وليس علي الرئيس وجماعته فقط. و المتابع لبعض المطبوعات التي تصدر في العالم العربي يلاحظ حفاوتها الشديدة بمفردات ذلك الخطاب , الذي يصدر في مصر لتصفية الحسابات مع الاخوان , لكنه يوظف في خارجها للحط من شان الثورة وتشويهها , من ثم لتحذير الجماهير العربية من التطلع الي ذلك الطريق الذي لم يجلب لمصر سوي الندامة و النحس , عبرت عن ذلك احدي الصحف المصرية هذا الاسبوع.
الذين يعممون ويوظفون خطاب الشيطنة الرائج عندنا لا ينتبهون غالبا الي ان الحدث المصري الذي سارع الي التقاط الشرارة من الثورة التونسية يدشن تحولا تاريخيا ينتقل بمقتضاه العالم العربي من مرحلة مقاومة الاستعمار الي مرحلة اخري شعارها مقاومة الاستبداد و الظلم الاجتماعي. وهذا التحول اذا كان قد تجلي في انتفاضات اسقطت بعض الانظمة العربية , فان تجلياته مشهودة ايضا في بقية اقطار الوطن العربي , من اقصاه الي اقصاه. وهي الاقطار التي تتعلق ابصار شعوبها بالتجربة المصرية في حين اصابها تسونامي من الدعوة الي التغيير , التي ترددت اصداؤها قوية وملحة عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من قنوات التعبير الآخر , وتعاملت معها السلطات المحلية بدرجات متفاوتة من اللين و الشدة.
' 2 '
لن نتوقف امام العدميين الذين يصرون علي تيئيسنا وتسويد الصورة امام اعيننا , لكن الانصاف الحقيقي يفرض علينا ان نري الصورة من جوانبها المختلفة , الايجابي منها و السلبي في الشق الاول لا نكاد نجد انجازا مهما علي صعيد السياسة الخارجية الا في الموقف ازاء القضية الفلسطينية , حيث لا ينكر احد ان مصر في الوقت الراهن خرجت من التحالف مع اسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية , وصار موقفها من فصائل المقاومة اكثر استقامة ونزاهة. اما في الشان الداخلي فبوسعنا ان نرصد ايجابيات عدة , سواء علي صعيد الحريات العامة التي علا سقفها حتي بدت بغير سقف في احيان كثيرة , تشهد بذلك الممارسات التي تحفل بها الساحة الاعلامية و الكيانات التي تظهر كل يوم في الساحة السياسية , و التظاهرات التي ذهبت بعيدا في اهدافها , حتي لم تستثنِ المحكمة الدستورية ومدينة الانتاج الاعلامي ومقر رئاسة الجمهورية , ورغم انني ارفض بعض تلك الممارسات ولا اؤيد التجاوزات التي وقعت خلال بعضها الآخر. كما انني اتفهم موقف الذين ضاقت صدورهم بها لان الامر كان جديدا عليهم وصارما لهم , الا ان كل ذلك جاء دالا علي ان ثمة روحا جديدة بدات تسري في مصر , ربما احتاجت الي بعض الوقت لكي تتصف بالنضج و الرشد.
علي صعيد آخر , اعترف بان في نفسي شيئا يتحفظ علي كثرة الاضرابات و الوقفات الاحتجاجية وعمليات قطع الطرق التي يعمد اليها الغاضبون من الاهالي من الحين و الآخر , الا ان ثمة وجها ايجابيا لهذا السلوك يتمثل في الجراة التي واتت الجميع. وجعلت الناس يصرُّون علي رفع اصواتهم ونيل حقوقهم واقنعت كل مواطن بانه شريك اصيل في الوطن وليس جزءا من القطيع. ورغم الاضرار الاقتصادية التي ترتبت علي ذلك. وهي ليست هينة , الا ان التحدي الذي نواجهه في الوقت الراهن صار يتمثل في كيفية الوفاء بحقوق العاملين وانصافهم , وفي الوقت ذاته ضمان استمرار واستقرار الوحدات الانتاجية.
في الجزء المليء من الكوب لا يفوتنا ان نذكر انجازين مهمين حدثا خلال الاشهر السبعة الماضية , احدهما يتمثل في انهاء حكم المجلس العسكري واحالة قيادته الي التقاعد. بما استصحبه ذلك من اعادة للجيش الي ثكناته لكي يستمر في اداء واجبه الوطني خارج السياسة. اما الانجاز الثاني فيتمثل في انهاء الدور السياسي للشرطة , وحصر مهمتها في حماية الامن الداخلي بعيدا عن استهداف او قمع قوي سياسية دون غيرها. وان ظل تحفظنا قائما علي الاساليب التي لاتزال تستخدمها الشرطة متاثرة بمدرسة القمع القديمة.
بعد اجراء الانتخابات الرئاسية فان الحفاظ علي مجلس الشوري المنتخب , وتخويله سلطة اصدار التشريعات بصفة استثنائية الي حين انتخاب مجلس النواب الجديد , ثم الانتهاء من اعداد الدستور بواسطة لجنته التاسيسية و الاستفتاء عليه الذي انتهي بتاييد الاغلبية النسبية له , هذه الخطوات حتي اذا اختلف الراي حولها , فان احدا لا ينكر انها شكلت مقاربات باتجاه اقامة مؤسسات الدولة , التي كان النظام السابق قد عمل علي تقزيمها وتهشميها.
' 3 '
بالمقابل ظهرت في الساحة المصرية شقوق وسلبيات كانت سحبا من رصيد التجربة وليس اضافة اليها. وقد برزت تلك السلبيات في ساحات عدة , و الامثلة علي ذلك متعددة , في مقدمتها ما يلي :
_ اننا خسرنا التوافق الوطني , اذ انقسمت النخبة التي توزعت علي فصيلين او معسكرين , احدهما للقوي العلمانية و الليبرالية و اليسارية الذين قدموا انفسهم بحسبانهم يمثلون التيار المدني , و الثاني للتيارات و التجمعات الاسلامية التي صنفت باعتبارها قوي دينية. واذا كان الانقسام بحد ذاته امرا مؤسفا. الا ان ما ضاعف من الاسف انه قام علي اساس الهوية وليس علي اساس الرؤية او الاجتهاد السياسي.
_ سواء لان الرئيس مرسي لم يقم بما عليه في تحقيق الائتلاف المنشود مع القوي الوطنية الاخري , او لان ممثلي تلك القوي سعوا الي محاولة حصاره وتوريطه في تحمل المسئولية ليحملها وحده , هو وجماعته وحلفاؤه من السلفيين , فالشاهد ان الطرفين لم ينجحا في اختبار التوافق. ولا اتردد في القول ان مسئولية الرئيس اكبر في هذا الصدد , لان موقعه يسمح له بالدخول الي التوافق في اكثر من باب.
_ اضافة الي ما سبق ثمة علامات استفهام حول الكيفية التي صدرت بها بعض القرارات السياسية المهمة عن رئاسة الجمهورية , الامر الذي اثار مستشاريه بمن فيهم نائب الرئيس ذاته , وهو ما ادي الي انفضاض بعض المستشارين وممثلي القوي الوطنية المستقلة من حول الرئيس. فخسر بذلك اصدقاءه , فضلا علي معارضيه , الامر الذي احدث فجوة بينه وبين المحيط السياسي. حتي بدا الدكتور مرسي وكانه رئيس لفئة من المصريين وليس كلهم.
_ لم ينجح الرئيس مرسي ولا حكومته في التواصل مع المجتمع الذي كان ينبغي ان يصارح بحقيقة ما يجري اولا باول , علي الاقل حتي لا يفاجا ولا يضيق ذرعا بالقرارات التي تصدر , خصوصا ما تعلق منها باجراءات التقشف وارتفاع الاسعار. وللاسف فان رصيد التقاطع ' مع القضاء و الاقباط مثلا ' كان اكبر واوفر من رصيد التواصل.
_ اتسمت بعض الخطي بعدم التوفيق ' صياغة الاعلان الدستوري الشهير وطريقة ابعاد النائب العام مثلا ' و التردد و الارتجال في خطي اخري ' زيادة الاسعار ثم الغاء القرار بعد ساعات من اعلانه ' . وهو ما اثار علامات استفهام حائرة حول كفاءة الطاقم المحيط بالرئيس خصوصا مستشاريه السياسيين.
_ ظهور السلفيين اللافت للنظر افاد واضر في ذات الوقت. ويساورني شك في ان الضرر فيه كان اكثر من الفائدة. هو افاد من حيث انه اظهر علي السطح ما كان يتحرك بعيدا عن الاعين , فراينا فيه ما لم يكن متاحا لنا ان نراه من قبل. اما الضرر فيه فراجع الي ان خروجهم كان مفاجئا ولم يكونوا مستعدين او مؤهلين له. فصدرت عنهم آراء وتحاربات شوهت التجربة واساءت اليها. ونسبت تلك الاساءات ليس الي اصحابها , ولكن الي مجمل التوجه الاسلامي , ومن ثم فانها استخدمت كفزاعة خوفت كثيرين وروعتهم , ليس بين الاقباط فحسب ولكن بين المسلمين ايضا. واذا قال قائل بان الترويع راجع الي الاصطياد من جانب بعض وسائل الاعلام فلن اختلف معه , لكن اضيف ان اداءهم هو الذي وفر لهم الذرائع التي استخدموها في ' الترويع و التخويف ' .
_ اما ' ام السلبيات ' فهي ان ادارة الرئيس مرسي لم تنجح في ان تقدم الينا حتي الآن علي الاقل رؤية او تصورا واضحا للمستقبل علي مختلف الاصعدة خصوصا في السياسة الاقتصادية حتي بدت وكانها لا تحمل جديدا سوي انها ادارة نظيفة وغير مستبدة.
واذا كانت قد قدمت اداء اكثر نزاهة في الشان الفلسطيني فان ذلك يحمد لها لا ريب , الا انني ارجو الا تكون قد اضطرت الي ذلك لكي تخرج من عباءة ' الكنز الاستراتيجي ' لاسرائيل , الذي يعد من صميم الحرام السياسي.
_ لا نستطيع ان نطوي صفحة السلبيات دون ان نشير الي بروز دور فلول النظام السابق , ومحاولتهم اكتساب الشرعية سواء من خلال تاسيس حزب لهم , او من خلال تحالف بعض المعارضين العلمانيين معهم لمواجهة الاخوان باعتبارهم خصما مشتركا للطرفين.
' 4 '
ادري اننا نتحدث عن تركة ثلاثين سنة حولت مصر الي انقاض لم ينافس الخراب الاقتصادي فيها سوي الخراب السياسي و الاجتماعي , ولا استطيع ان اتجاهل حقيقة ان الرئيس محمد مرسي تسلم منصبه منذ سبعة اشهر فقط. ولا يزال امامه اكثر من ٤٠ شهرا اخري لتنتهي مدته , ولا انسي مقولة الرئيس البرتغالي السابق جورج سامبايو التي ذكر فيها ان بلاده احتاجت الي سبع سنوات لوضع القطار علي السكة وبناء الدولة بشكل صحي. ورغم ان ما اوردته هو مجرد ملاحظات وليست احكاما , الا اننا ينبغي ان نعذر اذا رفعنا سقف توقعاتنا طالما ان الرئيس وحكومته لم يصارحونا بحقائق التركة التي تسلموها. ولم يخبرونا بالامد الذي علينا ان نتوقعه لكي نضع قطارنا علي السكة. ولم يحدثونا الا مضطرين مؤخرا , حين استحكمت المشكلة الاقتصادية وسرت شائعات تحدثت عن ان مصر علي وشك الافلاس. وهو ما تم نفيه رسميا , الا اننا صرنا نرقب الجنيه المصري , وهو يترنح هذه الايام ولا يزال مصيره مجهولا.
لا يستطيع مثلي ان يقترح مخرجا من عنق الزجاجة الذي صرنا اليه. لكنني افهم ان الظروف الاستثنائية ينبغي ان تواجه باجراءات استثنائية , باعتبار ان الحديد لا يفله الا الحديد. الا انني ازعم ان اداء الرئيس مرسي و الحكومة الذي نراه علي الاقل يتسم برتابة محيرة في مواجهة العواصف التي تحيط بنا. اذ الاحظ انهم يتصرفون بهدوء شديد واعصاب باردة , كان اوضاعنا مستقرة وامورنا علي خير ما يرام , وكان ما يعترضنا مجرد سحابات في الافق سرعان ما تتبدد وتنجلي بقدر قادر.
لقد تمنيت ان تبدا السنة الثالثة من عمر الثورة بخطوة شجاعة يدعو فيها الرئيس مرسي الي ابرام عقد اجتماعي جديد مع مختلف القوي السياسية , يكون اعلانا عن الانتقال الي طور جديد في مسيرة العمل الوطني يقرب الي اذهاننا فكرة وضع القطار علي السكة. ليس لاجل مصر وحدها , ولكن لاجل الامة العربية باسرها.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق