انخراط الجماعات الاسلامية في العمل السياسي يمثل مغامرة لا يدرك كثيرون عواقبها.
ليس فقط لقلة خبرتها في ذلك المجال , الامر الذي قد يعرض المصالح العليا للخطر.
وليس فقط لان من شان ذلك ان يشق الصف الوطني ويحوله الي معسكرين متنافسين او متقاتلين احدهما ديني و الآخر مدني.
وانما لان ذلك يؤدي الي انسحابهم من ساحة الدعوة ومن ثم احداث فراغ مجتمعي يستدعي آخرين لملئه , الامر الذي يفتح الابواب لشرور لا اول لها ولا آخر.
الحاصل في السودان يمثل تجربة مهمة تستحق النظر في هذا السياق , خصوصا انها تعد اول واقدم حالة تولي فيها الاسلاميون السلطة في العالم العربي , في اعقاب الانقلاب الذي شهدته الخرطوم في شهر يونيو من عام 1989.
منذ ذلك التاريخ برزت الحركة الاسلامية التي وقفت وراء الانقلاب , ثم ظهر حزب المؤتمر المنبثق من الحركة و الذي يعد واجهة سياسية لها مفتوحة لعضوية الجميع بمن فيهم اشخاص ليسوا من اعضاء الحركة.
وفهم ان الحركة تمارس الدعوة , وان حزب المؤتمر هو الذي سيخوض غمار السياسة.
ثم كان هناك كيان ثالث هو الحكومة , التي يفترض ان تشكل من ممثلي الاحزاب الفائزة في الانتخابات.
من الناحية النظرية يفترض ان يكون كل كيان منفصلا عن الآخر. لكن ذلك لم يحدث في الواقع , لان قياديي الحركة اصبحوا قياديين في الحزب ومكتبه السياسي ومجلس شوراه , كما انهم اصبحوا مسؤولين في الحكومة ,
وايا كانت ملاحظاتنا علي هذه التركيبة , فما يهمنا في الامر ان الجميع انخرطوا في اللعبة السياسية وفتنوا بها , واختفوا بصورة تدريجية من ساحة الدعوة ,
وتصادف ان تزامن ذلك الغياب الذي استمر نحو ربع قرن وبرزت اتجاهات جديدة في الساحة وطرات متغيرات كثيرة في الافكار و المعتقدات و المرجعيات فضلا عن ثورة الاتصال بطبيعة الحال.
في شهر نوفمبر الماضي عقد حزب المؤتمر اجتماعه السنوي الذي وُوجِه بحقيقة التغيرات التي ظهرت علي الارض , وكان ابرزها تمدد الحركة السلفية وانتشارها , حتي اصبحت مسيطرة علي 600 مسجد في الخرطوم وحدها.
ثم ظهور ما سمي بالسلفية الجهادية التي تعتمد العنف سبيلا الي التغيير , وينطلق اطارها الفكري من تكفير المجتمع ووجوب مقاتلة مؤسساته ,
وتبين ان عناصر السلفية الجهادية لهم علاقة بتنظيم القاعدة , كما ان لهم علاقاتهم مع حلقات السلفية الجهادية في الخارج , الامر الذي دفع بعضهم الي المشاركة في القتال بالصومال و السفر الي جمهورية مالي للانضمام الي مجموعات القاعدة التي قامت بتدمير الاضرحة ومحاولة تاسيس امارة اسلامية في شمال البلاد.
الاخطر من ذلك انهم اكتشفوا مجموعة من الشبان ' 31 شخصا ' في منطقة الدندر بولاية النيل الازرق يخزنون السلاح ويتدربون عليه تمهيدا لاقامة امارة اسلامية لهم هناك.
وتبين ان بينهم ابناء لبعض قيادات الحركة الاسلامية الذين انغمسوا في العمل السياسي ولم يلتفتوا الي ابنائهم , الذين جذبتهم الافكار المتطرفة فذهبوا بعيدا الي الحد الذي اوصلهم الي مشارف تنظيم القاعدة.
اشتبكت الشرطة مع اولئك الشبان , وقتلت منهم واحدا , وتم الاستيلاء علي الاسلحة التي قاموا بتخزينها. وهم ينتظرون المحاكمة الآن في الخرطوم.
في حدود علمي فان المملكة المغربية هي البلد الوحيد في العالم العربي الذي نجحت فيه الي حد كبير عملية الفصل بين الحركة الاسلامية الام ' التوحيد و الاصلاح ' وبين حزب العدالة و التنمية الذي فاز في الانتخابات وراس الحكومة امينه العام عبد الله بنكيران.
' للعلم الحزب المغربي اقدم من حزب العدالة و التنمية التركي وقد تم استئذانهم في الرباط لاستعارة الاسم قبل اطلاق الحزب التركي ' .
لست واثقا من نجاح هذه التجربة في علاقة اخوان مصر بحزب الحرية و العدالة.
لكن التجربة لم تنجح في علاقة اخوان الاردن مع حزب جبهة العمل الاسلامي.
ولا تزال هناك علامات استفهام حول موقف حركة النهضة في تونس من السلفيين
وكذلك موقف حزب الاصلاح في اليمن من القاعدة.
اما في الجزائر التي تتولي الاجهزة الامنية فيها رسم خرائط السياسة فان الحركة الاسلامية تشرذمت وتفتت حتي اصبحت الجماعة المسلحة هي اللاعب الاهم في الساحة.
ان مجتمعاتنا احوج ما تكون في الوقت الراهن بوجه اخص الي جهود الراشدين و المعتدلين في الساحة الاسلامية ,
ومن المفارقات ان اولئك المعتدلين يغادرون الساحة ويهرولون الآن الي ملعب السياسة.
فيتركون موقعا تميزوا فيه ولم ينافسهم عليه احد , الي جبهة تنافس عليها آخرون ممن تفوقوا عليهم وسبقوهم.
وكان ذلك سحبا من رصيد الرشد المفترض فيهم.
ليس فقط لانهم فقدوا تميزهم , ولكن ايضا لانهم احدثوا فراغا تمدد فيه غيرهم. فلا هم خدموا الدين ولا هم فازوا بالدنيا.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق