الثورة لم تفشل لكنها أظهرت الفشل فينا معتز بالله عبد الفتاح


هل فشلت الثورة -- سالني بعض الاصدقاء هذا السؤال -- و الحقيقة انني قلت عبارة وجدتها تخرج علي لساني دون الكثير من التفكير : الثورة لم تفشل , لكنها نجحت في اظهار الفشل. بعبارة اخري : الثورة لم تفشل , نحن الذين فشلنا.

الثورة كشفت المازق الذي يعانيه الانسان المصري , وهو ان المقومات الاخلاقية و الفكرية للنهضة الحقيقية غير متوافرة. الثورة كاي فعل انساني جماعي ضخم تتفاوت تقييمات الناس له وفقا لزاوية الرؤية ووفقا للمدي الزمني الذي يحكم هذه الرؤية.

اتذكر حوارا دار بيني وبين احد اساتذة التاريخ الاوروبي في الخارج حين قال عبارة من قبيل : ان الثورة الفرنسية اخذت حوالي مائة عام قبل ان تستقر الاوضاع في فرنسا. فاستوقفت الرجل متسائلا : بروفسير ريتشي , هل قصدت مائة عام بالفعل ام هذا الرقم علي سبيل المجاز؟ وكانت اجابة الرجل ان الثورة الفرنسية لم تنته الا بعد ان استقرت مؤسسات الدولة الفرنسية , وهو ما مر بمحطات عدة حتي انتهت بثورة 1870 وما ترتب عليها من مؤسسات , وهو ما جعلني اتجاسر بالحديث منذ مارس 2011 عن ان الثورة الناجحة تمر بخمس محطات : التخلص من النظام القديم , الرومانسية الثورية , بناء المؤسسات البديلة , الواقعية الثورية , الرسوخ المؤسسي بقبول اغلب الناس بالاوضاع الجديدة.

لن استطيع ان احكي في هذا العمود كل ما حدث في فرنسا , لكن يكفي ان نعرف ان الثورة التي بدات في عام 1789 مرت بفترة من الاعتقالات و المحاكمات الانتقامية لرموز العهد السابق , وصولا الي محاكمة الثوريين لبعضهم البعض واعدامهم لبعضهم البعض , ثم انتهت بديكتاتورية تحت حكم نابليون , ثم عودة الملكية مرة , ثم حدثت عدة ثورات اصغر في اعوام 1830 , 1848 , 1870 , بما افضي في النهاية الي انشاء الجمهورية الفرنسية التي فتحت الطريق الي ما نعرفه اليوم. كل هذه الفترة كانت ما احتاجه الفرنسيون كي يغيروا ثقافتهم بعد ان غيروا مَن كانوا يحكمونهم , ثم ان يغيروا مؤسساتهم. وسنحتاج هذه النوعيات الثلاث من التغيير ايضا.

هذا ليس معناه ان ثورتنا او اي ثورة اخري ستحتاج مائة عام قبل ان تستقر , لكنها بالفعل مسالة معقدة ان تحكم علي الحدث اثناء حدوثه ومن اطرافه الذين تسبق تحيزاتهم وتخوفاتهم قدرتهم علي الاستماع لوجهة نظر مخالفة لهم. الثورة التي تفتقد ثلاثية القيادة و التنظيم و الايديولوجية تواجه معضلة تعدد القيادات وتعدد التنظيمات وتعدد الايديولوجيات. عند اليساريين الثورة التي لا تؤدي الي العدالة الاجتماعية كما يفهمونها هي ثورة غير مكتملة او فاشلة , ولا بد من استكمالها او ثورة جديدة. وعند الليبراليين الثورة التي لا تؤدي الي مزيد من الحريات كما يفهمونها هي ثورة غير مكتملة او فاشلة , وعند المحافظين دينيا الثورة التي لا تؤدي الي تطبيق شرع الله كما يفهمونه هي ثورة غير مكتملة او فاشلة -- وهكذا.

وعندي ان الثورة التي تؤدي الي وجود نظام ديمقراطي يتضمن ثلاثية : ديمقراطية الوصول الي السلطة , وديمقراطية ممارسة السلطة , وديمقراطية الخروج منها لكل اصحاب الايديولوجيات السابقة , هي ثورة ناجحة , واستكمالها يعني رسوخ هذه المعاني و القيم و الممارسات بما يسمح لليبرالي او اليساري او المحافظ دينيا ان يصل للسلطة ديمقراطيا وان يمارسها بديمقراطية وان يخرج منها اذا قرر الناخبون ذلك , والا اما استبداد جديد واما حرب اهلية. طبعا لكل فصيل قياداته وتنظيمه وكوادره , وهؤلاء لا يثقون في اولئك. وما يعوق نجاح الثورة الديمقراطية ان الديمقراطية بذاتها تتطلب شيئا من الثقة بالنفس وفي الآخرين لكن لا المحافظ دينيا يريد فعلا تطبيق شرع الله وانما هم يريدون ' السلطة الكهنوتية الشمولية ' من وجهة نظر معارضيهم , ولا اليساري يريد العدالة الاجتماعية وانما هم يريدون ' الاشتراكية البائدة ' من وجهة نظر معارضيهم , ولا الليبرالي يريد الحريات وانما هم يريدون ' العلمانية المقيتة ' من وجهة نظر معارضيهم .

الليبرالي لا يريدها ثورة ديمقراطية فقط , هو يريدها ثورة ديمقراطية يحكمها ليبراليون , و الا فهي فاشلة . و هكذا مع المحافظين دينيا و مع اليساريين . انا عن نفسي , اريدها ديمقراطية اولا ثم تاتي الايديولوجيات لاحقا , و الا استبداد جديد او حرب اهلية. ولاننا نضع ايديولوجياتنا قبل الديمقراطية , اذن الثورة لم تفشل , نحن الذين فشلنا .

ليست هناك تعليقات :