كارثة قطار البدرشين اغرقتنا في بحر من الحزن و الاسي , الا ان صدي الحادث في بعض وسائل الاعلام المصرية بدا صادما ومثيرا للدهشة. ذلك ان نداء العقل و المسئولية يدعو كل ذي صلة بالموضوع الي التفكير في مواجهة الكارثة بعدما صارت القطارات و الطرق البرية تحمل الناس الي الآخرة باكثر مما تحملهم الي بيوتهم ومقاصدهم. الا ان بعض الصحف الخاصة التي صدرت امس لم تنشغل بموضوع الحدث ومآلاته. وانما بدا انها احتفت به بدرجة عالية من الحرارة , ووظفته في حملتها ضد الرئيس محمد مرسي ورئيس الحكومة الدكتور هشام قنديل. واعتبرت ان القضية ليست ان مرفقا حيويا تدهورت اوضاعه. واصبح يحصد ارواح المصريين حينا بعد حين , ولكنها في نظرهم شهادة تثبت الفشل وتعزز الدعوة الي الخلاص من كل القائمين علي الامر في مصر الآن. فمن قائل ان الفشل لمرسي و الرحيل لقنديل , وان حكومة الاخوان تواصل حصد الارواح , وغامز في ان مرسي تفادي الاحتجاجات و الغضب ب ' هليكوبتر ' وان هتافات المواطنين طردت قنديل من موقع الحادث. وفي تعبير آخر عن التنديد و الشماتة وصفت احدي الصحف المرحلة التي تمر بها مصر باعتبارها ' عصر الشهداء ' . الي غير ذلك من المعالجات التي تتصاغر الي جانبها اصداء غرق اكثر من الف مصري في كارثة العبارة الشهيرة التي وقعت في عام 2006 , علما بان الذين اطلقوا تلك الاوصاف علي كارثة القطار كانوا في مواقع المسئولية المهنية ابان غرق الباخرة , وكان لهم راي مختلف في الكارثة التي وقعت آنذاك.
لا اريد ان اقف طويلا امام المعالجة الاعلامية للحدث. كما انني لا اريد ان اعفي رئيس الجمهورية او رئيس الوزراء من المسئولية السياسية و المعنوية بدرجة او اخري , ولا اظن ان احدا يمكن ان يزايد عليّ في الموقف النقدي للرجلين فيما استحق النقد او العتاب. كذلك ارجو الا يخطر علي بال اي احد انني اهوّن من شان مقتل ١٩ مجندا واصابة العشرات , لانني اعتقد ان الغضب واجب لمقتل اي مواطن ظلما وعدوانا. فضلا عن اننا ابناء ثقافة تعتبر ان مقتل اي انسان بغير حق هو عدوان جسيم علي المجتمع وقتل للناس جميعا , علي حد التعبير القرآني ' سورة المائدة الآية 32 ' .
لقد قلت امس ان الكوارث التي خلفها النظام السابق تفرض علي رئيس الوزراء ان يحدد سياسة واضحة وشفافة في التعامل معها , سواء عن طريق ترتيب اولوياتها وتحديد جدول زمني لازالة آثارها , مع الاعلان عن الموارد اللازمة للانجاز فيها. لكنني اليوم انبه الي امر آخر هو اننا اعتدنا وتربينا علي فكرة ' الرعاية الابوية ' التي تباشرها السلطة بحق المواطنين , وبمقتضاها يعفي المجتمع من المسئولية ويظل متفرجا وتابعا. وهو الامر الذي ازعم انه تغير بعد الثورة مع عودة المجتمع الي السياسة , وانتقاله من مرتبة التابع الي موقع الشريك. ولذلك فمن المهم ان نتساءل ايضا عن الدور الذي يتعين علي المجتمع ان يقوم به و المسئولية التي يجب ان يتحملها في ازالة آثار العدوان الذي مورس علينا طوال العقود الثلاثة او الاربعة التي خلت. بالتالي فانه اذا كان رئيس الوزراء مطالبا بجهد معين يبذل في ذلك الاتجاه , فاننا ينبغي ان نتساءل ايضا عن الدور الذي ينبغي ان يؤديه المجتمع في هذا الصدد.
ادري ان تسونامي المطالبة بالحقوق يجتاح مصر منذ قامت ثورة 25 يناير. وذلك شيء جيد , رغم اية تحفظات يمكن ان تسجل علي الاسلوب الذي اتبع في تلك المطالبات , الا اننا غضضنا الطرف عن الواجبات علما بانها الوجه الآخر للتطور الذي حدث. ناهيك عن ان عبء التركة الثقيلة التي خلفها النظام السابق يتطلب تضافرا واحتشادا قويين من جانب السلطة و المجتمع في ذات الوقت. ولست اشك في ان مجالات الخدمات بوجه اخص هي الاشد حاجة الي عون المجتمع ومشاركته , من خلال جمعياته الاهلية ومنظمات المجتمع المدني و النقابات و الاحزاب و الافراد , وكل من لديه طاقة قادرة علي البناء و الاضافة. وقد علمتنا الخبرة التاريخية من نظام الاوقات مثلا ان قدرة المجتمع علي العطاء لا حدود لها , وان الجماهير اذا انفتحت امامها ابواب المشاركة يمكن ان تندفع الي ابعد بكثير مما يخطر علي البال. و الدراسات التي اجريت علي نظام الوقت ابرزت حقائق مثيرة في هذا الصدد , لا تتعلق فقط بعطاء القادرين بل وايضا بعطاءات غير القادرين وحماسهم للمشاركة في تحقيق التكافل التماسا لعمارة الدنيا وثواب الآخرة.
بعد كارثة مزلقان اسيوط التي وقعت في شهر نوفمبر الماضي , واسفرت عن قتل 50 من اطفال المدارس , اهتمت نقابة المهندسين بالموضوع وتقدمت بمشروع يسهم في حل الاشكال , وفهمت من نقيب المهندسين الدكتور ماجد خلوصي ان رئيس الوزراء رحب به وتحمس له. ولا اعرف ما الذي تم فيه بعد ذلك. لكن الفكرة هي التي تهمني , خصوصا ان هناك نماذج مشجعة للغاية جسدت قيمة المشاركة الاهلية التي يعد مركز الكلي في مدينة المنصورة من تجلياتها الرائدة الجديرة بالاحتذاء في مجالات الخدمات الاخري.
ان احوال البلد سوف تنصلح لا ريب لو ان عشر معشار الجهد الذي يبذل للتنديد بالسلطة و التحريض عليها يوظف في محاولة استنفار المجتمع وتحفيزه للبناء و الاعمار , لكن البعض فيما يبدو يفضلون تعميم الاظلام وتثبيته علي التفكير في اضاءة الشموع .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق