لا آخذ علي محمل الجد حكاية اسلمة المقاهي ' الكافيهات ' , و اعتبرها مزحة ثقيلة فيها من الابتذال و المسخرة اكثر مما فيها من الرصانة و الجد. ولا استبعد ان تكون الفكرة من قبيل ركوب الموجة ومحاولة استثمار الاجواء الراهنة في مصر , التي ارتفع فيها صوت الاسلاميين وتعالت اسهم السلفيين في بعض الاوساط , اذ طالما ان الاسلاميين صاروا بين نجوم المسرح السياسي , وان المقاهي هي من اكثر المشروعات التجارية رواجا في الوقت الراهن نظرا لقلة الانتاج و زيادة معدلات البطالة .
فان اي صائد للفرص سيجدها فكرة جيدة و مريحة , ان يقوم بتركيب عمامة الساعة علي بطالة الشباب وفراغهم واستخدام الخلطة في انتاج مشروع لاسلمة الكافيهات .
القصة نشرتها جريدة الوطن امس الاول ' 5/1/2013 ' وافردت لها ثلاثة ارباع صفحة , وكانها مشروع قومي خطير , اما عناوين التقرير فقد كانت كالتالي : دماغ كابتشينو اول كافية اسلامي في مصر يفصل بين زبائنه ولا يسمح بالتدخين او الموسيقي ومعظم زبائنه شبان ملتحون وبنات منتقبات اذا كذب زبون فرافق فتاة وادعي انها زوجته او من محارمه يسمح لهما بالدخول ويتحملان وزر كذبهما. في التفاصيل عرفنا ان المقهي المذكور تم افتتاحه بحي مدينة نصر بالقاهرة , وزف الينا مدير المحل خبرا مفاده ان وراء المشروع ستة من السلفيين ' هدفهم الرئيسي اسلمة الكافيهات في بر مصر ' عن طريق تطبيق عدة شروط تلتزم بالشريعة وضوابطها. وقد اعلنت ادارة الكافية علي موقع فيس بوك انها ستكون الراعي الرسمي للمؤتمر الاول لقادة النهضة الذي سينعقد في قاعة الازهر للمؤتمرات , وهي عبارة غير مفهومة , لانني لم اكن اعرف ان هناك علاقة للكافيهات بالنهضة , وكان ظني انها من دلائل فشل فكرة النهضة. ولم يخطر علي بالي ان تبدا النهضة في مقهي مفتوح علي احد الارصفة , ولم استبعد ان يكون قد تم الزج بمصطلح النهضة من باب استثمار العناوين التي تتردد في الساحة , و التي استخدمها الرئيس مرسي في اكثر من مناسبة .
اخبرنا التقرير ان المقهي علي مسافة 300 متر , وانه مقسم ثلاثة اقسام , واحد للرجال و الثاني للنساء و الثالث للعائلات , وكل قسم مطلي بلون يميزه ومنفصل عن الآخر بجدار زجاجي يحجب رؤية المتطفلين. ولا مكان للوحات علي الجدران او موسيقي من اي نوع , و التدخين فيه ممنوع وكذلك الارجيلة , وعند الباب يقف شخص مهمته الاستفسار من الداخلين , خصوصا اذا كانوا خليطا من الشبان و الفتيات عن طبيعة العلاقة بين الجنسين , اذ يمنع جلوس الشاب مع الفتاة علي طاولة واحدة الا اذا كانا متزوجين علي سنة الله ورسوله , اما اذا كانا صديقين او زميلين فممنوع عليهما دخول المقهي .
في المقهي يرفع الآذان للصلاة علي مدار النهار وبه مصليان , واحد للنساء وآخر للرجال , ولا تتردد في المكان الا اصوات الاناشيد الدينية و الابتهالات , اما شاشات البلازما , فلا تظهر عليها سوي صورة لشاشة احدي القنوات الدينية , وفي موقع خاص بالمطبوعات وضعت رسائل ونداءات تضم بعض الادعية الدينية , وتتحدث عن عفة البنات وتدعوهن الي الالتزام بالحجاب , اضافة الي مطبوعات اخري تروج لبعض محال بيع ملابس السيدات و مستلزمات المحجبات .
المشهد كله عبارة عن فرقعة سلفية , لا تخلو من لمحات طيبة , لكنها في نهاية المطاف تسفه فكرة الاسلمة وتبتذلها , من حيث انها تختزلها في مقهي للترويح او قتل الوقت. ثم انها تختزل القيمة في بعض المظاهر الملموسة المتعلقة بالازياء او اللحي او التحقق من طبيعة العلاقة بين الشبان و الفتيات , او حتي الامتناع عن الاستماع الي الموسيقي و الاغاني. الي غير ذلك من الجوانب التي يهتم بها الفكر السلفي عامة , في حين لا علاقة لذلك الفكر بالاخلاق او القيم الانسانية الاخري , فالمسلم المثالي لديهم يتم تقييمه بمظهره وليس بقيمه ومسلكه , و الاسلمة عندهم مسطحة للغاية اذ يكفي لها ان تقيم كيانا يحمل اللافتة , ويلزم زبائنه باشكال معينة , ويمنع عنهم التدخين و الموسيقي , ويفرض عدم الاختلاط بين النساء و الرجال , وبذلك يتحقق المراد من رب العبادات اذ طالما استوفت المظاهر شروطها وانضبطت اشكال الناس وازياؤهم فقد قامت عندهم دولة الاسلام التي ينشدونها. لا يهم بعد ذلك ما اذا كان المسلمون عاملين ام عاطلين ' لاحظ ان الاسلمة المذكورة انطلقت من مقهي ' , متخلفين ام متقدمين , تابعين ام مستقلين , منتجين ام متسولين. اما الاخلاق الخاصة , مثل الصدق و الامانة و الوفاء و الكد و الابداع و الاتقان وغير ذلك فهي عناوين لا مكان لها في مواصفات الاسلمة التي يدعونها .
لا اريد ان اعمم , واتصور ان الامر لا يتجاوز حدود قراءة قاصرة من جانب فصيل بذاته , لكن ذلك يمنع واحدا مثلي من ان يقول ان الاسلمة اذا كانت في تلك الحدود وبهذه الطريقة المسطحة و المبتذلة فلست اريدها ولا اتمناها. وهو ما يشار الىني بقصة الشاعر الذي صادف عبثا من هذا القبيل بالصلاة فكتب يقول : ان رام كيدا بالصلاة مريدها فتاركها عمدا الي الله اقرب .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق