النصوص تتفاعل مع العقول لتنتج المعاني و الممارسات معتز بالله عبد الفتاح


هل تتذكرون القصة التي تقول ان الرسول الكريم امر اصحابه الا يصلوا العصر الا في بني قريظة ؟ فصلي بعض الصحابة العصر في منتصف الطريق حين ادركهم وقت صلاة العصر , و اخّر البعض الآخر الصلاة حتي وصل الي بني قريظة فصلي هناك. الفريق الاول غلّب زمان الصلاة علي مكانها , و الفريق الآخر غلّب مكان الصلاة علي زمانها. ولم ينكر الرسول الكريم علي اي منهم ما فعل. هذه واحدة.

هل تتذكرون الآية الكريمة التي جاءت في سورة الكهف عن الرجل الصالح الذي خرق السفينة كي يعيبها لانه كان وراءهم ملك ياخذ كل سفينة غصبا؟ ولكن لماذا يعيبها اذا كان الملك ياخذ كل السفن غصبا؟ اذن تقدير الكلام لذوي العقول النيرة هو ان العبد الصالح يقصد : ' وكان وراءهم ملك ياخذ كل سفينة صالحة سليمة من اي عيب غصبا ' . ولكنه افترض فينا شيئا من الحكمة , فلم يات النص كاملا اعتمادا علي عقولنا النيرة .

هذه ثانية .

اما الثالثة فهي من آيات القرآن الكريم , قال تعالي : ' قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ' يبدو من هذه الآية ان قتال غير المسلمين واجب شرعي بلا اي قيد او شرط. ولكن ياتي العقلاء ليقولوا ان هذه الآية ' مطلق ' عليه عدة قيود مثل : ' وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا اِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ' . وهناك قيد آخر : ' وَاِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ ' . وهكذا.
اما الرابعة فهي من الدستور الامريكي حيث ظل دائما خلاف بين مادتين شهيرتين في الدستور الامريكي : الاولي هي المادة المعروفة باسم ' المادة المرنة ' ' المادة 18 من الجزء 8 ' و التي تعطي للكونجرس الحق في ان يسن القوانين الضرورية و الملائمة لتنفيذ كافة المهام التي تؤدي الي وحدة الاتحاد الامريكي والي احترام حقوق مواطنيه. وياتي التعديل العاشر في الدستور الامريكي و الذي اُقر بعد 4 سنوات كجزء من عشر مواد تم الاتفاق علي اضافتها للدستور الامريكي و التي عرفت باسم : ' اعلان حقوق الانسان ' . ينص التعديل العاشر علي ان اي سلطة او صلاحية غير منصوص عليها صراحة في هذا الدستور للسلطة المركزية فهي بالضرورة من حق حكومات الولايات و الاشخاص , وبالتالي ليس من حق الحكومة المركزية ان تتدخل فيها.

طبعا هنا يكون السؤال , لو ان الدستور الامريكي لا ينص علي وجود عملة واحدة للولايات المتحدة , هل هذا يعطي للحكومة المركزية فرض هذه العملة علي الولايات؟ الحقيقة ان هذه واقعة تاريخية حيث ان الكسندر هاميلتون استند الي المادة المرنة حتي يقوم الكونجرس بانشاء بنك مركزي ويصدر عملة موحدة , واحتج معارضوه بالتعديل العاشر الذي يقول انه طالما ان هذه الصلاحية لم تُذكر صراحة في الدستور كحق من حقوق السلطة المركزية , اذن فلا مجال لفرض بنك مركزي وعملة موحدة.

وظل الجدل مستمرا الي ان حكمت المحكمة الدستورية العليا بان المادة المرنة هنا غير مقيدة بالتعديل العاشر لان وجود بنك مركزي وعملة موحدة امر ضروري وملائم للحفاظ علي الاتحاد.

بل ان المحكمة الامريكية في مرحلة ارست حكما ثم محكمة لاحقة بعد حوالي 100 سنة خرجت عليه بعد ان غلّبت مادة علي مادة. و المثال الشهير هو حكم المحكمة في مرحلة بجواز الفصل العنصري ثم تغيير الحكم لاحقا بعدم جواز الفصل بين البيض و الملونين.


اذن ما الذي نستفيده مما سبق :

اولا , خلا الرياضيات و العلوم الطبيعية , ستظل اللغة دائما حمّالة اوجه.

ثانيا , النصوص تتفاعل مع العقول لتنتج المعاني و الممارسات , و النصوص العظيمة حين تتفاعل مع عقول حمقاء فسيسيئون اليها.

ثالثا , في مجال السياسة , موازين القوي علي الارض تعطي للنصوص مدلولاتها العملية.

رابعا , لو حكم عقول الناس رباعية ' الغين ' اي الغل و الغيظ و الغطرسة و الغباء , فلن ينفع معهم لا دستور ولا كتب مقدسة.

خامسا , التزام احكام المحكمة الدستورية العليا عند الخلاف التشريعي واستشارة هيئة كبار العلماء عند الخلاف الشرعي ممكن ان يحل الكثير من المشاكل في قابل الآيام. او هكذا اظن .

ليست هناك تعليقات :