يسري فودة يودع والدته بمقال رائع ' القبلة على الجبين '


هناك نوع من الأسئلة لا يستطيع الإنسان صياغته في الزمن المضارع , لا بالضرورة لعجز لغوي , و لكن لنوع آخر من العجز يدخل تحت إرادة الله , عز و جل , التي شملت كل شيء في الدنيا و الآخرة. من بين هذه الأسئلة سؤال من مريض إلي طبيب : ' ما هي درجتي الآن علي مقياس جي سي إس؟ ' ترمز هذه الأحرف اختصارا إلي ' جلاسكو كوما اسكيل ' , و هو مقياس طورته جامعة جلاسكو البريطانية عام 1974 لتحديد مدي عمق حالة الغيبوبة. يبدأ المقياس من النقطة 15 في حالة الوعي التام و ينتهي لدي النقطة 3 في حالة الغيبوبة التامة .
 
في ذلك العام , عام 1974 , كنت طفلا غضا , و كان أبي قد عاد بنا من إحدي قري محافظة سوهاج , حيث كان يعمل مديرا لوحدة صحية نائية , إلي قريتنا علي أول طريق طنطا_ شبين الكوم. صارت لهذا الطريق أهمية استراتيجية بعد حرب أكتوبر . فهو الطريق الذي بدأ يسلكه الرئيس الراحل , أنور السادات , في حجه السنوي في سيارة مكشوفة إلي قريته ' ميت أبو الكوم ' في المحافظة المجاورة. وجلت أمي خيفة عليّ عندما علمت أن المدرسة , و من ورائها القرية كلها , اختارتني كي أحمل طوقا من الزهور إلي عنق الرئيس. لكنها كانت لحظة ألقت بذلك الطفل الغض إلي ما لم يكن لخياله أن يدركه إلا بعد ذلك بسنوات رغم اشتعال الخيال في أعقاب نصر أكتوبر.

عندما رأيتها في غرفة العناية المركزة آخر مرة مساء الخميس , 30 أغسطس 2012 , كانت أمي لدي النقطة 10 علي ذلك المقياس , و هي نقطة مقبولة يمكن العودة منها بإذن الله. هرولت عائدا من طنطا إلي القاهرة و معي مظروفان كبيران , داخل أحدهما أشعة مقطعية للمخ , و داخل الآخر أشعة بالرنين المغناطيسي , أيضا للمخ. قبل ذلك بيومين اثنين لم يكن لدي الأطباء _ و من ثم لم يكن لدينا _ أي شك في أنها قد تعدت مرحلة الخطر بعد جراحة موضعية حسنت كثيرا من ضغط الدم و من وظائف أعضاء مختلفة في الجسم.

يومها , يوم الثلاثاء , كنت أقطع الطريق من القاهرة إليها فرحا ملتقطا وجبة غداء في صورة ' كوز درة مشوي ' من أحد الفلاحين المكافحين علي الطريق السريع أمام ' دفره ' قبيل الوصول إلي طنطا. صار لي الآن أكثر من أسبوع و أنا أقطع طريقا مشحونا بالذكريات بين عيدان الذرة , رمز اللهو و السمر في الطفولة و الصبا , و سيقان شجيرات القطن , رمز العمل و الكفاح في عز الحر. و صار لها هي الأيام نفسها في غرفة العناية المركزة في أحد المستشفيات الخاصة.

أتجنب إزعاج أصدقائي حتي في أمور هامة كهذه , لكنني كنت قد اضطررت قبل أيام إلي إخبار اثنين منهما في القاهرة. أولهما صديقي ألبرت شفيق رئيس قنوات أون تي في التي كانت تستعد علي قدم و ساق لعودة برنامجي و بقية البرامج الرئيسية في شكل جديد للقناة , و ثانيهما الدكتور حسام بدرواي. لم أكن أعلم في البداية بمن أستغيث بعد الله عندما شرح لي طبيب و الدتي في طنطا , الدكتور سامح فتحي , حالتها. كانت الحالة من التعقيد فأثرت تزامنيا علي أكثر من عضو في الجسم بحيث لم أكن أعلم حتي إلي أي نوع من الأطباء المتخصصين في القاهرة ألجأ أولا.

لا أحد أقرب إلي القلب من الأم , و لا شيئ أبعد عن العقل في لحظة كهذه من السياسة , و لا إحساس أقسي علي الإنسان من الإحساس بالعجز. بذل الدكتور حسام بدراوي من وقته و جهده الكثير في متابعة الحالة , لكنه كل مرة كان يعود كي يقول لي إن حساباته مع متخصصين آخرين تقودهم إلي أن مخاطر نقلها و هي علي جهاز التنفس الصناعي من طنطا إلي القاهرة لا تزال أعلي من ذلك الفارق الضئيل في تقديرهم بين ما هو متاح لها في طنطا و ما يمكن أن يتاح لها في القاهرة.

وسط ذلك حمل لي هاتفي رسالة صوتية من الدكتور عمرو حلمي , وزير الصحة الثائر الخلوق , و هو لا يعلم من الأمر شيئا. في طريق عودتي بصور الأشعة مساء الخميس اتصلت به فاتصل هو فورا بالدكتور وليد رأفت أستاذ المخ و الأعصاب. ثم وجدت الصديق حسام صبري في انتظاري في طريق العودة إلي المنزل و معه أستاذ آخر كبير في المخ و الأعصاب هو الدكتور عمرو منسي الذي كان يشرف علي حالة حفيد الرئيس السابق. مرة أخري : لا يمكن نقلها الآن و لا مجال للتدخل الجراحي.

يمنحني اتصال آخر صباح اليوم التالي , الجمعة , من الدكتور عمرو السمان , الذي ينتمي إلي جيل جديد من أخصائيي مصر المتميزين في المخ و الأعصاب , بريقا من الأمل و هو يتمعن الآن في صور الأشعة التي حملها إليه صديقي حسام صبري. لديّ بعد صلاة الجمعة موعدان , أولهما مع الدكتور حسام بدراوي في منزله في مدينة 6 أكتوبر و ثانيهما مع الدكتور وليد رأفت في عيادته في ميدان لبنان الذي تكرم و عرض المساعدة في أي وقت بعد أن أطلعه الدكتور عمرو حلمي علي الأمر.

ثم فجأة يتصل بي الدكتور سامح فتحي من طنطا. ' أرجو الحضور فورا فقد انخفض ضغط الدم بصورة كبيرة و لا ندري ماذا نفعل ' . عندما ضغطت عليه في أسئلتي كان جوابه قاطعا : ' سيكون من كرم الله لو بقيت و الدتك معنا 24 ساعة أخري ' . أختاي و زوجاهما و أخوالي و أعمامي و كثيرون من العائلة الممتدة حولها الآن , فأين ينبغي أن أكون؟ فردا آخر يضاف إليهم؟ أم أن من الأفضل أن أستمر في جهودي مع الإخصائيين؟ بقيت هكذا لنحو نصف ساعة مشلول القرار. لكن أطرافي بدأت تتحرك مع كل خلية من ذكري تفرض نفسها الآن و كانت أحداثها قد وقعت في هذا الأسبوع نفسه قبل اثنتي عشرة سنة. كنت وقتها في لندن عندما أتاني خبر أبي من جمال , ابن عمي و زوج أختي سماء. علي الأقل أنا الآن في مصر و يمكنني أن أكون إلي جوارها. هكذا قررت.

ما أن بدأت في ارتداء ملابسي حتي لمع هاتفي المحمول معلنا عن اسم العقيد هشام , ابن عمتي و زوج أختي منال و صديق طفولتي و صباي. يجهش الآن صوت جندي يدافع عن سماء مصر بالبكاء : ' إنا لله و إنا إليه راجعون ' . لا شيئ في الدنيا يمكن أن يساعدك علي الاستعداد للحظة كهذه. انعقد لساني , انعقد تماما إلا من كلمة و احدة : ' لا إله إلا الله ' , و انعقد بصري إلا من وجه أمي صبوحا دائما رغم الألم , و انعقد سمعي إلا من صدي دعائها لي كل يوم : ' ربنا يحبب فيك حصي الأراضي ' , و انعقدت مخيلتي إلا من أطياف متداخلة متسارعة لعمر بدأ نطفة بين جنبيها.

في قرية صغيرة لم يتعد عدد أبنائها آنذاك أكثر من بضعة آلاف قليلة , اسمها منشية جنزور , أتت بي إلي الحياة ساعة الفجر يوم جمعة في ' المَقعد ' , و هو غرفة كبيرة فوق سطح المنزل الريفي كانت هدية جدتي لابنها الذي كان قد تخرج لتوه من كلية الطب كأول متعلم ' ليبيرالي متدين ' في الوقت نفسه في قرية عدد من لا يستطيع أن ' يفك الخط ' فيها أضعاف عدد من يستطيع. بمعايير القرية كان هذا ' المقعد ' ما يمكن أن يطلق عليه الغربيون ' روف تيراس ' , و بمعايير أبي كان هدية من الله جمعته بحبيبة قلبه , و بمعاييري أنا كان ملاذا للاعتكاف منذ نعومة الأظافر في ذلك الركن البعيد المنزوي من السطح حيث أغطس بين حطب الذرة اللين و عيدان القطن اليابسة مع ما اختلسته من قشدة من مخزن ' متارد ' اللبن و ما وقعت عليه يداي من كتب و مجلات من أي مكان. هكذا أبقي لساعات تحت أشعة شمس رائعة يقطعها فقط مواعيد الصلاة مع جدي و تنتهي بكرة القدم مع عمي , علي , الذي لم يكن يكبرني إلا بنحو عشر سنوات.

قصتي مع قريتي هي قصتي مع أمي. تتهلل أساريرها فرحا و فخرا كل مرة تخترع مناسبة كي تخبر زوارها أمامي _ و أنا ' يا أرض انشقي و ابلعيني ' _ أنه كان يحلو لي , و عمري لم يتجاوز الثانية , أن أحبو متسلقا قبل أن يستقر بي المقام فوق سطح ' الطبلية ' أمام الناس ثم أرتدي نظارة أبي متظاهرا بقراءة جريدة أحملها رأسا علي عقب. بعد قليل أعدلها حين أري صورة الأستاذ محمد حسنين هيكل لأن وعيي وقتها ارتبط بوعي أبي الذي كان دؤوبا علي قراءة عموده الشهير , ' بصراحة ' , في الأهرام.
 

سبحان الله , في هذه اللحظة , بعد تلك السنوات كلها , يدق باب منزلي في القاهرة برسالة مكتوبة من الأستاذ :

' الصديق العزيز الأستاذ يسري فوده --- . لقد علمت في نفس يوم وصولي إلي القاهرة , بعد غياب شهرين كاملين عنها , أنك فقدت أقرب و أعز الناس لديك , و تلك لحظة محزنة و موحشة , جربتها من قبلك , و عرفت مرارتها و قساوتها. و إني لأرجو أن تنقل إليك هذه السطور صادق مشاعري في هذه اللحظة و كل مشاركتي القلبية , حتي يتاح لي بنفسي أن أراك , و أن أقدم لك بنفسي عزائي و دعائي. إنني أعرف أن كثيرين يشاركونني تقديري لك , و أننا جميعا نعرف أن شجاعتك قادرة علي مشاعرك. مع موفور التحية و بكل مودة --- . محمد حسنين هيكل ' .

لم يكن يمكن لسيدة ريفية مثل أمي لم يتح لها أن تكمل تعليمها أن تدرك الكثير من تفاعلات السياسة و الفكر و الثقافة و العلم في حياتها , لكن الله حباها بفيض من الفطرة و الفطنة و الأدب. كما أن إحساسا يغمرني الآن بأن يد الله نزعت عن روحها الآن كل غشاوة , و بأنها تدرك الآن كل شيئ , و بأن عينيها تري الآن كل التفاصيل , و بأنها ربما كانت تود في لحظة كهذه أن تهمس فخورة في أذن أبي. مثلما أتخيلها الآن و قد اختلطت ذكراها و هي تقلق من منامها قبيل الحادية عشرة كل مساء كي تتأكد من أنني مستيقظ أستمع إلي برنامج في الراديو لا تفقه منه كثيرا و لا يدعوها إلي الاهتمام به سوي حرص ابنها عليه و استمتاعه به --- . برنامج اسمه ' لغتنا الجميلة ' كان قد ظهر في أعقاب النكسة لإنسان جميل اسمه فاروق شوشة.

سبحان الله مرة ثانية , هو أيضا بعث إليّ بهذه الرسالة بعد وفاتها :

' الحبيب يسري --- . أعرف مرارة الكأس التي نتجرعها عند بغتة الرحيل لأمهاتنا , و قد ذقتها و أنا في العشرين و عانيت بعدها خواء الزمان و المكان , و لا يزال مذاقها في فمي حتي اليوم , و انغمست في دوار الحياة لعلي أتماسك , و أنا لا أجد ما أنصحك به أو أواسيك به. الكلام الآن يعجز , و الصمت أبلغ , و حبي لك أكبر و أعمق , و اسلم دائما --- . فاروق ' .

و سبحان الله مرة أخري , الذين عرفوها أحبوها و الذين لم يعرفوها كذلك , و ربما أكثر. إن كان في روحي و في روحيْ أختيّ بعض من روحها فهو كرم من الله و نعمة , و إن كان في أخلاقنا خيط مما يمكن أن يُستحب فهو من نقاء أمنا و من صبر أبينا , غفر الله لهما و أسكنهما فسيح جناته و جعل منا ذرية صالحة كما ربيانا و كما نذرا حياتيهما في الدنيا من أجل مرضاة الله و من أجلنا.

جزا الله خيرا كل من دعا لأمي بالمغفرة و الرحمة و كل من أكرمها في حياتها أو في مماتها. أمام هذا الفيض من الحب الذي لم أكن لأستحقه لولاها أدين لكم بين يدي الله بالشكر و بالدعاء بألا يريكم الله مكروها فيمن تحبون , و بأن يقدّركم دائما علي أن تحتفوا بأهليكم و بأحبتكم في حياتهم و في مماتهم بعد عمر هانئ طويل. ألتمس منكم العذر إن كنت عاجزا عن الرد , لكن لكل خطوة خطوتموها نحو سرادق العزاء و لكل كلمة تركتموها علي هاتفي و لكل حرف سطرتموه هنا أو في أي مكان و لكل نفَس حاك بالدعاء جهرا أو سرا وقع البلسم فوق جرح تقبلناه حتي قبلناه. إنه قضاء الله و لا راد لقضاء الله و لقد رضينا بقضائه عز و جل , إنه هو الغفور الرحيم.

ليست هناك تعليقات :