قبل ثمانية وثلاثين عاما كاملة جرت وقائعُ هذه القصة. في بلدٍ آخر --- وثقافةٍ مختلفة. نرفض سياساته --- نعم. وبعضا من ثقافته --- نعم. ولكننا ننحني قطعا لمعانٍ في هذه الثقافة تبرزها هذه القصة :
في عام ١٩٦٩ كان ريتشارد نيكسون ' الجمهوري ' قد وصل إلي الغرفة البيضاوية في البيت الأبيض , بعد أن نجح في استغلال مخاوف الناخبين ' من الشيوعية --- إلي العنصرية ' وكان شعار أمن الدولة أو ' الأمن القومي ' بالتعبير الأمريكي هو التعبير المفضل عند رئيس الدولة العظمي العائدة بخسارتها من فيتنام.
لم يمض وقت طويل , حتي كان الرجل مفتونا بشعاره ربما قد تورط , أو بالأحري تورطت إدارته مع حزبه في التستر علي عملية تجسس علي مقر الحزب الديمقراطي في فندق ' ووترجيت ' , وهو الأمر الذي انتهي بفضيحة أخذت اسم الفندق. وأدت إلي الإطاحة بالرئيس الذي اضطر للاستقالة في التاسع من أغسطس ١٩٧٤. بعد أن نجح صحفيان في الواشنطن بوست ' بوب وودوارد ومايكل برنشتاين ' في كشف تفاصيل القصة بعد عامين كاملين من التحري و التحقيق في سراديب السلطة الغامضة الخطرة ' وهي قصة تستحق بذاتها أن تروي ليتعلم منها صحفيو تصريحات الهواتف و المكاتب المكيفة ' . ويعرف كل من تابع القصة المثيرة أن الصحفيين اعتمدا في تحقيقاتهما علي مصدر احتراما لشرف المهنة لم يفشيا سر اسمه أبدا , رغم كل الضغوط الهائلة التي تعرضا لها. مكتفين بأن يرمزا إليه بما أسموه ' deep Throat ' .
وبعد ثلاثة عقود كاملة , وبعد أن تجاوز الرجل التسعين من عمره خرج صاحب ' الحنجرة العميقة ' ليكشف عن نفسه. وليعرف الجميع بأنه أيام ' ووترجيت ' كان الرجل الثاني في مكتب التحقيقات الفيدرالي ' مارك فيلت ' وأنه تتلمذ علي يد مديره ' ادجار هوفر ' الذي حافظ علي استقلالية المكتب ' أمام البيت الأبيض ' لأربعة عقود كاملة قبل أن يموت في مكتبه في مايو ١٩٧٢.
_ _ _
لماذا نتذكر هذه القصة الآن؟ ولماذا أعود لأكرر كلاما سبق وإن كتبته في ' وجهات نظر ' قبل سنوات؟
في الصفحة الأولي من ' الشروق ' الصادرة صباح الثلاثاء الماضي ٤ سبتمبر نقل الزميلان محمد خيال وحاتم الجهمي علي لسان الدكتور محمد البلتاجي عضو المكتب التنفيذي لحزب الحرية و العدالة , تصريحا لفت انتباهي أنه لم يستوقف أحدا , رغم أهمية القائل وخطورة ما قال. حسب النص المنشور , قال المسئول الكبير : ' تلقيت اتصالا هاتفيا الأسبوع الماضي من سيدة لا أعرفها ذكرت لي أنها مساعدة لشخصية كبيرة جدا في هيئة رقابية سيادية وأنها تريد أن تنبهني أن هذه الشخصية الكبيرة حتي اليوم تراقبني وتراقب آخرين معي وتتنصت علي كل مكالماتي وتسجل كل تحركاتي وأنها أي تلك السيدة كانت تظن أن هذه الأعمال ستتوقف بعد الثورة ولكن للأسف وجدت أن هذا الدور مستمر حتي هذه اللحظة ' .
انتهي الاقتباس --- وبالمصادفة , حكي لي مساء اليوم ذاته واحد من جماعة الرئيس كيف أنه يُضطر لتغيير شريحة هاتفه بين حين و آخر ليضمن ' خصوصية ' مكالماته.
ورغم أن كلام البلتاجي جاء بعد ساعات من إقالة رئيس هيئة الرقابة الإدارية بواحد من القرارات ' الجريئة ' التي تحاول تطهير ' الدولة العميقة ' المتشابكة الخيوط , وكان حسب تصريحاته يشير إلي هذا القرار , إلا أن ما هو متداول يبدو أنه يتجاوز القرار و الهيئة. كما أن الاتهام لو صح لا تكفي معه الإقالة , بل يتطلب محاسبة تصبح درسا , لو كنا صادقين حقا في أننا نعمل علي بناء دولة حديثة. تحترم فيها الدولة ' وأجهزتها ' حق المواطن , كما تلتزم فيها بالقانون. ' مادة ١١ من الإعلان الدستوري ومادة ٤٥ من دستور ١٩٧١ , ومادة ٢٤ من دستور ١٩٥٤ ' .
في بلادنا العربية لا أستثني أحدا عرفنا لعقود كيف كان الحزب الحاكم ' المتماهي مع الدولة ' يتجسس علي معارضيه. وعرفنا لعقود كيف كان الحزب الحاكم يستخدم الجهاز الأمني ' للدولة ' التي هي بحكم التعريف ' دولة كل المواطنين ' في مواجهة معارضيه. ولكني أظن أن ربيعا عربيا جاءت نسائمه الأولي قبل ما يقرب من عامين من تونس اليافعة , أعاد ' تعريف الدولة ' أو بالأحري أعاد اليها تعريفها الصحيح ' دولة كل المواطنين ' . بعثيين كانوا أو غير ذلك --- أصهارا ل ' بن علي ' أو باعة جائلين في بوزيد --- أعضاء في الحزب الوطني أو إخوانا مسلمين.
كنت قد قلت غير مرة أن الذي يقلقني ليس ما يعتبره البعض بكثير من المبالغة ' أخونة ' للدولة , بل ما يقلقني حقا ربما يتجسد فيما سميته ' تأخون ' الدولة . بمعني أن نجد رموزا وكتابا ومسئولين , لم يكونوا يوما من الإخوان أو حتي من مناصريهم , وقد أصبحوا فجأة ' ملكيين أكثر من الملك ' . وأحسب بخبرة التاريخ أن أولئك سيضرون الإخوان ' بنفاقهم ' أكثر مما سيضرون غيرهم. بدت إرهاصات ذلك للأسف في كتابات وأعمدة صحفية لا تخطئها عين قارئ. وأخشي ما أخشاه أن يصلَ الداءُ إلي ' أجهزةٍ ' يُفترض أنها تعمل للدولة. لا لحزب أو لحاكم.
لا أتحدث هنا عن الرئيس الذي ' ربما أعرفه ' . ولا أتحدث عن حزبٍ بعينه , لم يصبح ' بالتعريف السياسي ' حزبا حاكما بعد. ولكني أتحدث ' حديثا مجردا ' عن أي حزب أو رئيس يأتي بهما صندوق انتخابات في مستقبل يُفترض أن نعرف فيه ' تداولا حقيقيا للسلطة ' ---
ويُفترض أن نبنيه ' جميعا ' علي قواعد جديدة . أول ما فيها ' أن لا حاكم للأبد ' .
_ _ _
هل هذه , علي أهميتها كل ' دروس ووترجيت ' ؟
أظن أن ' حرية الصحافة ' تصلح أن تكون عنوانا لدرس ثان. أو بالأحري المعني الحقيقي لحرية الصحافة , الذي إن كان يفترض أولا : بحثا دءوبا عن الحقيقة --- وهذا و اجب الصحفي. ' صحفيا الواشنطن بوست أمضيا في تحقيقاتهما عامين كاملين ' , فإنه يتطلب ثانيا : إدراك الجميع أن تلك الحرية ليست ' ريشة علي رأس الصحفيين ' كما يحاول البعض أن يقول مستنكرا تمييز يدعيه. فتلك الحرية هي في حقيقتها ' حق للمواطن ' لا للصحفي في أن يعرف. ودرس ووترجيت يقول لنا ببساطة شديدة إنه لولا حرية الصحافة , ولولا الحق قانونا في تداول المعلومات , ما كان وودوارد وزميله قد وصلوا إلي حقيقة ووترجيت , وما كان المواطن الأمريكي قد عرف ما ينبغي أن يعرفه --- وما كان نيكسون بجريرته قد غادر البيت الأبيض.
_ _ _
أرجوكم وأنتم تتطلعون إلي دولة جديدة --- اقرأوا ' ووترجيت ' .
في عام ١٩٦٩ كان ريتشارد نيكسون ' الجمهوري ' قد وصل إلي الغرفة البيضاوية في البيت الأبيض , بعد أن نجح في استغلال مخاوف الناخبين ' من الشيوعية --- إلي العنصرية ' وكان شعار أمن الدولة أو ' الأمن القومي ' بالتعبير الأمريكي هو التعبير المفضل عند رئيس الدولة العظمي العائدة بخسارتها من فيتنام.
لم يمض وقت طويل , حتي كان الرجل مفتونا بشعاره ربما قد تورط , أو بالأحري تورطت إدارته مع حزبه في التستر علي عملية تجسس علي مقر الحزب الديمقراطي في فندق ' ووترجيت ' , وهو الأمر الذي انتهي بفضيحة أخذت اسم الفندق. وأدت إلي الإطاحة بالرئيس الذي اضطر للاستقالة في التاسع من أغسطس ١٩٧٤. بعد أن نجح صحفيان في الواشنطن بوست ' بوب وودوارد ومايكل برنشتاين ' في كشف تفاصيل القصة بعد عامين كاملين من التحري و التحقيق في سراديب السلطة الغامضة الخطرة ' وهي قصة تستحق بذاتها أن تروي ليتعلم منها صحفيو تصريحات الهواتف و المكاتب المكيفة ' . ويعرف كل من تابع القصة المثيرة أن الصحفيين اعتمدا في تحقيقاتهما علي مصدر احتراما لشرف المهنة لم يفشيا سر اسمه أبدا , رغم كل الضغوط الهائلة التي تعرضا لها. مكتفين بأن يرمزا إليه بما أسموه ' deep Throat ' .
وبعد ثلاثة عقود كاملة , وبعد أن تجاوز الرجل التسعين من عمره خرج صاحب ' الحنجرة العميقة ' ليكشف عن نفسه. وليعرف الجميع بأنه أيام ' ووترجيت ' كان الرجل الثاني في مكتب التحقيقات الفيدرالي ' مارك فيلت ' وأنه تتلمذ علي يد مديره ' ادجار هوفر ' الذي حافظ علي استقلالية المكتب ' أمام البيت الأبيض ' لأربعة عقود كاملة قبل أن يموت في مكتبه في مايو ١٩٧٢.
_ _ _
لماذا نتذكر هذه القصة الآن؟ ولماذا أعود لأكرر كلاما سبق وإن كتبته في ' وجهات نظر ' قبل سنوات؟
في الصفحة الأولي من ' الشروق ' الصادرة صباح الثلاثاء الماضي ٤ سبتمبر نقل الزميلان محمد خيال وحاتم الجهمي علي لسان الدكتور محمد البلتاجي عضو المكتب التنفيذي لحزب الحرية و العدالة , تصريحا لفت انتباهي أنه لم يستوقف أحدا , رغم أهمية القائل وخطورة ما قال. حسب النص المنشور , قال المسئول الكبير : ' تلقيت اتصالا هاتفيا الأسبوع الماضي من سيدة لا أعرفها ذكرت لي أنها مساعدة لشخصية كبيرة جدا في هيئة رقابية سيادية وأنها تريد أن تنبهني أن هذه الشخصية الكبيرة حتي اليوم تراقبني وتراقب آخرين معي وتتنصت علي كل مكالماتي وتسجل كل تحركاتي وأنها أي تلك السيدة كانت تظن أن هذه الأعمال ستتوقف بعد الثورة ولكن للأسف وجدت أن هذا الدور مستمر حتي هذه اللحظة ' .
انتهي الاقتباس --- وبالمصادفة , حكي لي مساء اليوم ذاته واحد من جماعة الرئيس كيف أنه يُضطر لتغيير شريحة هاتفه بين حين و آخر ليضمن ' خصوصية ' مكالماته.
ورغم أن كلام البلتاجي جاء بعد ساعات من إقالة رئيس هيئة الرقابة الإدارية بواحد من القرارات ' الجريئة ' التي تحاول تطهير ' الدولة العميقة ' المتشابكة الخيوط , وكان حسب تصريحاته يشير إلي هذا القرار , إلا أن ما هو متداول يبدو أنه يتجاوز القرار و الهيئة. كما أن الاتهام لو صح لا تكفي معه الإقالة , بل يتطلب محاسبة تصبح درسا , لو كنا صادقين حقا في أننا نعمل علي بناء دولة حديثة. تحترم فيها الدولة ' وأجهزتها ' حق المواطن , كما تلتزم فيها بالقانون. ' مادة ١١ من الإعلان الدستوري ومادة ٤٥ من دستور ١٩٧١ , ومادة ٢٤ من دستور ١٩٥٤ ' .
في بلادنا العربية لا أستثني أحدا عرفنا لعقود كيف كان الحزب الحاكم ' المتماهي مع الدولة ' يتجسس علي معارضيه. وعرفنا لعقود كيف كان الحزب الحاكم يستخدم الجهاز الأمني ' للدولة ' التي هي بحكم التعريف ' دولة كل المواطنين ' في مواجهة معارضيه. ولكني أظن أن ربيعا عربيا جاءت نسائمه الأولي قبل ما يقرب من عامين من تونس اليافعة , أعاد ' تعريف الدولة ' أو بالأحري أعاد اليها تعريفها الصحيح ' دولة كل المواطنين ' . بعثيين كانوا أو غير ذلك --- أصهارا ل ' بن علي ' أو باعة جائلين في بوزيد --- أعضاء في الحزب الوطني أو إخوانا مسلمين.
كنت قد قلت غير مرة أن الذي يقلقني ليس ما يعتبره البعض بكثير من المبالغة ' أخونة ' للدولة , بل ما يقلقني حقا ربما يتجسد فيما سميته ' تأخون ' الدولة . بمعني أن نجد رموزا وكتابا ومسئولين , لم يكونوا يوما من الإخوان أو حتي من مناصريهم , وقد أصبحوا فجأة ' ملكيين أكثر من الملك ' . وأحسب بخبرة التاريخ أن أولئك سيضرون الإخوان ' بنفاقهم ' أكثر مما سيضرون غيرهم. بدت إرهاصات ذلك للأسف في كتابات وأعمدة صحفية لا تخطئها عين قارئ. وأخشي ما أخشاه أن يصلَ الداءُ إلي ' أجهزةٍ ' يُفترض أنها تعمل للدولة. لا لحزب أو لحاكم.
لا أتحدث هنا عن الرئيس الذي ' ربما أعرفه ' . ولا أتحدث عن حزبٍ بعينه , لم يصبح ' بالتعريف السياسي ' حزبا حاكما بعد. ولكني أتحدث ' حديثا مجردا ' عن أي حزب أو رئيس يأتي بهما صندوق انتخابات في مستقبل يُفترض أن نعرف فيه ' تداولا حقيقيا للسلطة ' ---
ويُفترض أن نبنيه ' جميعا ' علي قواعد جديدة . أول ما فيها ' أن لا حاكم للأبد ' .
_ _ _
هل هذه , علي أهميتها كل ' دروس ووترجيت ' ؟
أظن أن ' حرية الصحافة ' تصلح أن تكون عنوانا لدرس ثان. أو بالأحري المعني الحقيقي لحرية الصحافة , الذي إن كان يفترض أولا : بحثا دءوبا عن الحقيقة --- وهذا و اجب الصحفي. ' صحفيا الواشنطن بوست أمضيا في تحقيقاتهما عامين كاملين ' , فإنه يتطلب ثانيا : إدراك الجميع أن تلك الحرية ليست ' ريشة علي رأس الصحفيين ' كما يحاول البعض أن يقول مستنكرا تمييز يدعيه. فتلك الحرية هي في حقيقتها ' حق للمواطن ' لا للصحفي في أن يعرف. ودرس ووترجيت يقول لنا ببساطة شديدة إنه لولا حرية الصحافة , ولولا الحق قانونا في تداول المعلومات , ما كان وودوارد وزميله قد وصلوا إلي حقيقة ووترجيت , وما كان المواطن الأمريكي قد عرف ما ينبغي أن يعرفه --- وما كان نيكسون بجريرته قد غادر البيت الأبيض.
_ _ _
أرجوكم وأنتم تتطلعون إلي دولة جديدة --- اقرأوا ' ووترجيت ' .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق