فهمي هويدي ... انتقلنا في مصر من ارهاب السلطة الي ارهاب المجتمع. اذ في ظل الاستقطاب الحاد الذي نعيشه , وفي غياب مؤسسات او اوعية للحوار , وفي غياب ثقافة ديمقراطية تجعل الحوار بديلا عن الشجار , فان التجاذب و التراشق صارا من ابرز سمات المرحلة التي نعيشها. لم تعد لنا مشكلة كبيرة مع السلطة. بعدما انتخب الاغلبية رئيسا ايده البعض وعارضه آخرون , لكنه بعد انتخابه اكتسب شرعية لا يستطيع احد ان يطعن فيها وان اختلف معها. المشكلة الاكبر الآن بين تيارات المجتمع التي توزعت في الوقت الراهن علي معسكرين , شاع وصفهما بالقوي الدينية و المدنية. وهو وصف انتقدته في مقام آخر , لانه يضع الطرفين علي النقيض من بعضهما البعض , وذلك غير صحيح , في حين ان الوصف الادق انه بين قوي اسلامية وعلمانية بالاساس , علي هوامشها مؤيدون للرئيس محمد مرسي ومعارضون له , لاسباب سياسية لا تتعلق بالهوية الدينية او المدنية.
في العراك الراهن يوصف مؤيدو الرئيس مرسي بانهم سرقوا الثورة وخانوها وباعوا الشهداء وبانهم ظلاميون متخلفون يريدون اعادة مصر الي العصور الوسطي , ويحولونها الي مجرد امارة في دولة الخلافة. بالمقابل يرد بعض الاسلاميين باتهام العلمانيين بانهم ملحدون وكفرة وعملاء للغرب ودعاة للاباحية و التحلل. وهناك الفاظ واوصاف اخري خارجة يتبادلها الطرفان تصدمني حين اطالعها في الشتائم المتبادلة , استحي من ذكرها فضلا عن انها مما لا يليق الاستشهاد به في اي سياق او منبر محترم. ولان لغة الهجاء و السباب صارت هي الاصل , فان الذين انتقدوا استجابة البعض لدعوة الرئيس مرسي لبحث الخروج من الازمة الراهنة , لم يوردوا حججا موضوعية في نقدهم , ولكن منهم من استسهل اضافة اسمائهم الي ما وصف بانه قائمة ' العار ' .
حين خرجنا من مرحلة موت السياسة الي انخراط الجميع وتقافزهم في بحر السياسة , لم نجد اوعية مهياة لاستقبال ذلك الزحف الكبير. وكان من الصعب علينا ان نجري حوارا لم تتعود عليه. فلم يجد الناس امامهم سوي الشوارع و الميادين يخرجون اليها , وشاشات التليفزيون يصيحون عليها. وكنا في السابق قد غضضنا الطرف عن خلافاتنا لان السلطة المستبدة كانت خصما مشتركا. ولم ننتبه الي ان تاجيل تلك الخلافات كان في حقيقته ' هدنة ' موقعة ضمنا , وليس اقتناعا بضرورة العيش المشترك و التمسك باهداب السلم الاهلي. وحين سقط ذلك الخصم اصبحنا في مواجهة بعضنا البعض , فتم استدعاء ما كان مؤجلا وايقاظ ما كان نائما او مغيبا , فتعاركنا واستمر احترابنا الي ان وصلنا الي مرحلة ما عاد احد فينا يحتمل الآخر او يقبل به , واصبح شعار الاقصاء مشهرا علي واجهاتنا الاعلامية وفضائنا السياسي , وفي خضم الاحتراب نسينا الحلم المشترك واستسلمنا لشهوة الانتصار علي الآخر حتي اذا تم ذلك علي جثة المواطن.
تعاركنا بتبادل النعوت و الاتهامات وبوابل الكلمات , وبالاعتصامات و المليونيات. ولم يكن ذلك اسوا ما في الامر , لان الاسوا تمثل في احلال الغرائز محل العقل , وانخراط العقلاء في الاستقطاب البائس الذي قسم البلد ولوث اجواءه. بالتالي فان كل طرف لجا الي تخويف الآخر , وليس الي حمله او اقناعه. وفي هذا الخضم تم التقاذف بالاوصاف التي سبقت الاشارة اليها. وراينا مليونية في ميدان التحرير يرد عليها بمليونية مضادة في ميدان نهضة مصر. ووجدنا اعتصاما امام مقر المحكمة الدستورية , وفي مقابلة اعتصام امام مقر الرئاسة في قصر الاتحادية. ثم فوجئنا باعتصام احتجاجي علي ما تبثه بعض الفضائيات امام مدينة الانتاج الاعلامي. ولم يخل الامر من اشتباكات بالايدي , تطورت الي اطلاق للرصاص سقط بسببه عشرة من القتلي في ' موقعة الاتحادية ' يوم الاربعاء قبل الماضي.
لم تعد السلطة تخيفنا , بل ان الشرطة التي ظلت تخيفنا طول الوقت اصبحت تخاف من الناس في بعض مراحل ما بعد الثورة علي الاقل , لكننا صرنا نخاف من بعضنا البعض. ورغم ان الارهاب كله امر مقيت لكني صرت اخشي من ارهاب المجتمع باكثر من خشيتي من ارهاب السلطة , اذا جاز لنا ان نختار بين الشرين. فالسلطة كيان محدد يمكن اختصامه , في حين ان المجتمع بحر واسع لا تعرف شخوصه. و السلطة مؤقتة وزائلة يوما ما , اما المجتمع فهو باق حتي تقوم الساعة. وارهاب السلطة يظل اجراء مهما بلغت قسوته , اما ارهاب المجتمع فهو جزء من ثقافة خطرة تشوه اجياله وتهدد كيانه. الامر الذي يسوغ لي ان اقول ان ارهاب السلطة مرض يصيب الجسم ولكن ارهاب المجتمع وباء يحل بالامة وتعم به البلوي.
اذا صح ان ذلك التجاذب من مخلفات مرحلة الاستبداد التي شوهت قيم المجتمع ومزقت اواصره , فان ذلك يشجعنا علي ان نراهن علي امل اقامة نظام ديمقراطي يعيد للمجتمع صوابه , ويرد الي القوي السياسية ثقتها في بعضها البعض , ومن ثم يعيد الي الحوار قيمته المهدرة.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق