المشكلة الاقتصادية خبرناها جيدا فأين الحل ؟


معتز بالله عبد الفتاح ... هل مصر مصابة بسرطان الرئة المفضي الي الموت , ام بنزلة شعبية حادة تحتاج عناية خاصة , ام مصابة بفيروس الانفلونزا الذي سيذهب بقليل من الجهد؟ الاجابة عندي : لا الاولي ولا الثالثة. مصر بحاجة لعلاج رشيد من فريق اقتصادي متمكن وارادة سياسية متمكنة. ولا غرابة في ذلك , فقد تخرجت 15 دولة من ' مدرسة التخلف ' الي ' مدرسة التنمية ' خلال الفترة من عام 1965 الي عام 2005. و المثير للتامل انها تبنت استراتيجيات متشابهة لحد بعيد في كيفية تحولها من دول متخلفة الي دول تنموية. وقد ناقشت هذا الموضوع من قبل وحان وقت فتحه مرة اخري للنقاش.

ثم جاء وراءها عدد آخر من الدول التي تعلمت منها واضافت الي استراتيجياتها ابداعات اخري مثار دراسة وتقدير , وعلي راسها الصين و الهند و البرازيل وجنوب افريقيا . فبتسوانا مثلا كانت افقر دولة في العالم بلا جدال في عام 1966 , اي قبل عامين من حصولها علي الاستقلال , غير أنها الآن من اعلي دول افريقيا في مؤشرات التنمية . حيث متوسط القدرة الشرائية لمواطنيها ضعف متوسط القدرة الشرائية لمواطني مصر , مع ملاحظة الفجوة الهائلة بين القدرات البشرية , كما ونوعا , للمصريين وللبتسوانيين.

وهناك نقاط تشابه عديدة يمكن تفصيل بعضها باختصار كالتالي :

اولا : وجود فريق تخطيط استراتيجي لبرامج التنمية في الدولة. فريق العمل هذا يتكون من عدد محدود من الاشخاص تفاوت من دولة لاخري . بحيث كان فقط 8 خبراء في بعض الدول ووصل الي 24 خبيرا في دول اخري.

المهم ان هؤلاء يتمتعون بخصائص علمية وتجارب حياتية تجعلهم العقل المفكر للدولة في مجالات التنمية الاقتصادية و الاجتماعية , وتكون عضويتهم في هذا الفريق هي العمل الوحيد الذي يعملونه , فيفكرون طوال اليوم , كل ايام الاسبوع , في كيفية النهوض باوضاع الوطن. وهم بذلك اطراف مباشرون في عملية تنموية ذات اطراف خمسة : رئيس الدولة او الحكومة , الوزارات و الجهاز البيروقراطي , الشركات و المؤسسات الدولية , و القطاع الخاص , و النقابات العمالية.

كل واحد من نماذج التنمية المشار اليها ابتكر فريق عمل له وظيفة محددة ومساحة معينة بدقة للدور الذي يمكن ان يقوم به , هذا الفريق له اسماء متعددة , وللتبسيط سنسميه ' فريق التخطيط الاستراتيجي ' الذي كان اسمه في ماليزيا مثلا ' وحدة التخطيط الاقتصادي ' التي بدات في الستينات بعدد بلغ 15 شخصا , نصفهم كانوا من العقول الماليزية المهاجرة. و الراس الاخضر اعتمد بدءا من منتصف السبعينات علي ثلاثة عقول اقتصادية جبارة حول رئيس الوزراء الذي كان وزير التخطيط و الضمان الاجتماعي ايضا. وتايوان ابتكرت مجلسا تحت اسم مجلس المعونة الامريكية الذي كان يضم عددا من الخبراء التايوانيين و الامريكيين , وكان هذا المجلس علي اتصال مباشر برئيس الجمهورية من خلال اجتماعات شبه اسبوعية , وشيلي اعتمدت علي مجلس اُطلق عليه اعلاميا اسم ' فريق شيكاغو ' نسبة الي حصولهم علي درجاتهم العلمية من جامعة شيكاغو العريقة واعتقادهم في الاطار الفكري الذي تقدمه.

بل ان جورجيا , التي احتلت قمة الاصلاحيين في تقرير Doing Business لعام 2007 اعتمدت علي فكرة مشابهة. وقد اشار فريق التقرير الي ان ' وزارة الاصلاح في جورجيا لديها نحو 20 شخصا يقومون بمهام التخطيط الاقتصادي و الاجتماعي في هذه الدولة , لو ان لنا ان نحدد سببا واحدا فقط لنجاح جورجيا , فهو ' وضع افضل العقول في مراكز صنع الافكار و القرار ' .

اذن دور هذا الفريق لا يمكن اغفاله , لكن هذا دور محدد بدقة . فلا ينبغي ان يتسع اكثر من اللازم فتتحول الي حكومة موازية او ان يضيق اكثر من اللازم بحيث لا يكون اكثر من مجلس استشاري بلا دور من الناحية العملية. وهذه هي مهارة صانع القرار الذي يعهد لهذه العقول المبهرة و النيرة بمثل هذه المهمة.

ثانيا : هذا الفريق عليه مهمة تصميم استراتيجيات التنمية علي الورق. و المقصود بالورق هو كتابة خطة محكمة تناقش بكل شفافية الخطوات الاجرائية لتحقيق التنمية.

ولانهم لن يستطيعوا ان يحلوا كل المشكلات الاقتصادية بالتوازي . فعليهم اختيار المجالات الاولي بالاهتمام علي اساس معيارين , اولا : تكون للدولة فيها مزية تنافسية كبيرة بحيث تستطيع عمليا ان تبرز فيها بمجهود اقل من اي مجال آخر.

والمعيار الثاني : ان يكون هذا المجال استراتيجيا وقادرا علي ان يكون له قاطرة النمو التي تجر وراءها بقية القطار الاقتصادي الاجتماعي , اي مجال له تاثير ايجابي علي مجالات اقتصادية واجتماعية اخري , اي يكون لها ' spill over effect ' كما يقال بالانجليزية . ففي حالة تايوان كانت هناك خطة ذات 19 نقطة لاصلاح القطاعين المالي و الانتاجي , وفي ماليزيا تبنت الدولة ' السياسة الاقتصادية الجديدة ' منذ عام 1971 , غير أنها طبّقتها بفعالية اكثر مع تولي مهاتير محمد السلطة في عام 1981.

ثالثا : قيادة التفاوض مع القطاع الخاص . فهذه الدول لم تنطلق من افتراض ان القطاع العام قادر منفردا علي قيادة النمو الاقتصادي , وبالتالي لا بد من ان تساعد الدولة القطاع الخاص حتي يزدهر ويكون قادرا علي التنافس مع العالم الخارجي.

فمثلا اشتهرت عبارة حكم ' نخبة اللحوم ' اي ' beefocracy ' في بتسوانا في اشارة لدعم الدولة لرجال الاعمال الذين حولوا عملية تربية العجول و الابقار الي صناعة وطنية ضخمة يعمل بها آلاف من المواطنين. وقدمت موريشيوس نموذجا آخر لعلاقة بناءة بين الجهاز البيروقراطي للدولة و القطاع الخاص لدعم الصادرات الغذائية المصنعة وعلي راسها منتجات السكر.

وهذه العلاقة بين فريق العمل التخطيطي و القطاع الخاص عبر عنها بعض الباحثين بعبارة ' الاستقلال الاندماجي ' ' embedded autonomy ' لفريق التخطيط . لانه فريق غير ' مسيس ' اي لا ينتمي لحزب ولا يعبر عن رؤية حزبية ضيقة , كما انه ليس حكوميا . حيث لا يوجد فيه او بينه وزراء او مسئولون حكوميون. وعلي هذا الاساس تكون هناك مسافة محسوبة بدقة بين هذا الفريق و القطاع الخاص , كما توجد مسافة اخري بينه وبين الحكومة.

وعليه يكون القطاع الخاص بعيدا بما يكفي عن مطبخ العمل الحكومي حتي لا تتحول الدولة اداة في يد الطبقة المسيطرة اقتصاديا ' اي رجال الاعمال في معظم الاحيان ' وقريبا بما يكفي حتي لا تتبدد طاقته وامكاناته بسبب التضارب في التوجهات و السياسات. وهذا هو جوهر الاختلاف بين التجربة المصرية علي عهد مبارك التي اعتمدت بشكل مباشر علي عدد من رجال الاعمال في مناصب وزارية وعينت عددا منهم في امانة السياسات بما يجعل هذه الامانة ' اذا افترضنا ابتداء انها نظير لفريق التخطيط الاستراتيجي المشار اليه في الدول الاخري ' . حيث تبدو الدولة وكانها في معظم قراراتها وتشريعاتها تعمل لخدمة مصالح رجال الاعمال دون الاتفاق معهم بشان كيفية توزيع العوائد بما يخدم المجتمع ككل , اي من النمو الي التنمية , من زيادة الانتاج الي عدالة التوزيع.

ففريق الخبراء هذا ليس من رجال الاعمال وليست له مصالح شخصية تتعارض مع مصالح الدولة . فهم ممثلون للدولة وليسوا ممثلين لجهات اخري للتاثير علي سياسات الدولة لخدمة مصالحهم. وقد يقوم فريق التخطيط الاستراتيجي احيانا بالتفاوض بالنيابة عن العمال او النقابات المهنية الاخري كي يتم اخذ مصالحهم في الاعتبار.

رابعا : التنسيق مع القيادة الحكومية :

فكل هذا التنسيق مع الجهات الخارجية و الداخلية ليس له قيمة ان لم يحظ هذا الفريق بثقة القيادة السياسية للدولة وباستعدادها بالمخاطرة المحسوبة من خلال قرارات ربما تكون غير شعبية . فرئيس بتسوانا , مثلا , تخلي عن مصالح القبيلة التي ينتمي اليها لصالح الوطن حينما تبني قانونا يكسر احتكار قبيلته لعملية حفر المناجم في اواخر الستينات . فالتزام هذه القيادات بالتنمية كالتزامها بالامن.

واي قرار او سياسة او مصالح خاصة تنال من عملية التنمية هي ' خط احمر ' بلغة الحزب الوطني في مصر. وقد كان نجاح هؤلاء سببا في شرعية الانجاز التي اهلت الكثير منهم لان يتولوا مناصب تنفيذية لاحقا. فرئيس فريق التخطيط الاستراتيجي في تايوان اصبح لاحقا رئيس الدولة. وهو ما حدث كذلك في بتسوانا و الراس الاخضر. ومن اهم مجالات التنسيق مع القيادة الحكومية وضع خطط اعادة توزيع عوائد الاستثمار علي فئات المجتمع الاخري في صورة تعليم وعلاج وخدمات عامة.

خامسا : التفاوض مع المؤسسات و الشركات الدولية :

بحكم الخبرات التي تمتع بها اعضاء هذا الفريق , بحكم دراستهم وعملهم في الخارج , فقد كانوا الاقدر علي التفاوض مع مؤسسات التمويل الدولية من اجل المنح و القروض , كما كانوا الاقدر كذلك علي التفاوض مع الشركات متعددة الجنسيات. وبما ان كل هذه الدول قد تبنت استراتيجية دعم الصادرات ' وليس الاحلال محل الواردات ' فالتواصل مع الشركات الدولية مسالة جوهرية للغاية . فشركات التكنولوجيا التي انشات مصانع باهظة التكلفة في كوريا وتايوان لم تختر هاتين الدولتين الا بعد جهد معتبر استخدمت فيه آليات التسويق المتعارف عليها كي تقتنع هذه الشركات الدولية بانه من الافضل لها ان تعمل في هاتين الدولتين.

سادسا : تعبئة وتخصيص الموارد :

من المهام المتشابهة , التي قام عليها اعضاء هذا الفريق في الدول التنموية السابقة , مهمة توجيه موارد المجتمع نحو مجالات بعينها لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه . فقد كانت وحدة التخطيط الاقتصادي في ماليزيا هي المسئولة عن توجيه نحو ثلث ميزانية الدولة بالتنسيق التام مع رئيس الوزراء.

وقد كانت ميزانية الدولة في كوريا الجنوبية تقدم ابتداء من فريق التخطيط الاستراتيجي ثم تناقش علي مستوي مجلس الوزراء لاحقا حتي تضيف بعدي النمو و التنمية علي قمة اولويات الحكومة.

سابعا : دفع الجهاز الاداري و البيروقراطي للاستجابة لمتطلبات التنمية :

فالجهاز الاداري و البيروقراطي هو الاقل استعدادا للتغير و التكيف مع معطيات سوق عالمية شديدة التنافسية و السرعة. ولو ترك الامر للبيروقراطيين وحدهم , لما نجحت اي من النماذج السابقة. و المعضلة الاساسية في كثير من الدول , ومن بينها مصر , ان الوزير المسئول يسعي للدفاع عن جهازه البيروقراطي لانه مسئول عنه سياسيا وامام الراي العام بما يعطي للبيروقراطيين مبررا للتمسك المبالغ فيه باللوائح و الارشادات دون النظر الي نتائج قراراتهم.

ومن هنا يكون من المهم ان يقوم فريق التخطيط الاستراتيجي بمهمة متابعة ورصد مدي التطور في الاداء البيروقراطي. وبما انهم انفسهم لا يملكون سلطات تنفيذية , فانهم يقدمون تقارير متابعة لرئيس الدولة او رئيس الوزراء.

وخلاصة القول : ان هذه الدول التنموية اعتبرت نفسها في حالة حرب حقيقية في مواجهة التخلف و الفقر , ومن هنا استعانت بافضل عقولها ووضعت لهم ادوارا ومهام مرسومة بدقة حتي يكونوا العقل المفكر لتجاربهم التنموية .

ليست هناك تعليقات :