نحن امام مفترق طرق , و القرار سيكون جماعيا . اي ان كل الفصائل الكبري ينبغي ان تتفق علي اي بديل تريد , سواء اكان ذلك عن قصد وتدبر وباعلان و التزام , ام بالتحرك العشوائي الارتجالي المعتاد القائم علي الخلف في الوعد وعدم الالتزام بالمتفق عليه وتغليب المكاسب الجزئية علي المكاسب العامة.
البديل الاول هو الديمقراطية كما يعرفها اهلها ومنظروها , التي تعني ان نضع آلياتها وقيمها وعملياتها قبل اي من الايديولوجيات السائدة في الساحة السياسية. الديمقراطية التي تفترض ان من حق كل صاحب ايديولوجية ان يعرضها علي جمهور الناخبين ويكون من حقهم ان يختاروا البديل الذي يناسبهم , وليس تقييم نجاح الثورة او الديمقراطية بوصول حزب معين للسلطة ومنع غيره من الوصول اليها.
هي ديمقراطية الوصول الي السلطة عبر انتخابات حرة نزيهة تعددية تنافسية دورية عبر تصويت سري مباشر تحت اشراف جهة محايدة وفقا للقانون المعلن. وديمقراطية ممارسة السلطة عبر احترام قواعدها التي تقضي بتعدد مراكز صنع القرار , و الرقابة و المساءلة , واحترام حقوق الانسان الاساسية ورفض الاستبداد , سواء استبداد الاغلبية بالاقلية او الاقلية بالاغلبية او الفرد بالمجموع -- ثم ديمقراطية الخروج من السلطة عبر نفس الآلية حين وصل من وصل الي السلطة. هذا البديل ليس اختيار من هم في السلطة وحدهم , لكنه لا بد ان يكون قائما علي اختيار من هم في السلطة ومن هم في المعارضة , لكن العبء الاكبر يقع علي من هم في السلطة. هؤلاء لم يفعلوا الجهد المنظم و المخطط لتهدئة بعض فئات المجتمع وبعض مؤسسات الدولة , بل دخلوا في معارك متتالية تحت مظلة ' شرعية الصندوق ' . وقد قلت من قبل : ان اضعف الشرعيات هي شرعية الصندوق في اعقاب الثورات , وانما المطلوب هو شرعية التوافق الوطني وطمانة المنافسين و الخائفين. و الآن ضاعت من النخبة الحاكمة افضلية المبادرة , واصبح الحكم في حالة من العزلة عن المعارضة وعن الكثير من الشخصيات المستقلة التي كانت تامل في توجه اكثر توافقية من المؤسسة الحاكمة. وما زاد الامر سوءا هو ان يُعلن ان مجلس الشوري غير ملزم بنتائج الحوار الوطني بشان قانون الانتخابات , اذن نفس الكلام ينطبق علي المواد الخلافية في الدستور التي وعد الرئيس بانه سيعمل علي تحقيق التوافق الوطني بشانها , لكنه لم يفعل. اذن لماذا الدعوة للحوار الوطني؟ ولماذا يتعهد نائب الرئيس السابق بان الرئيس ملتزم شخصيا به؟ اذن نحن امام معضلة ان ديمقراطية الوصول الي السلطة لم تتبع بديمقراطية ممارسة السلطة بما يخلق فجوة ثقة ستنال من احتمال تحقق الديمقراطية الحقيقية. وبدلا من ان يكون الرئيس مرسي هو الرئيس المؤسس لديمقراطية ما بعد الثورة علي نحو ما حاول في اول اربعة شهور من حكمه , سيصبح رئيسا مثيرا للجدل السياسي بين مؤيدين بلا تحفظ ومعارضين بلا تردد. عرف ام لم يعرف من هم قائمون علي امر السلطة , فقد قرروا ان يتحولوا من ديمقراطية توافقية ' consociational democracy ' الي ديمقراطية الاغلبية او المغالبة كما تترجم في اللغة العربية ' majoritarian democracy ' التي تفترض ان الاغلبية قررت وعلي الاقلية الانصياع , وهو اختيار لا شك انه لا يناسب دولة في مرحلة تحول ديمقراطي او دولة منقسمة ايديولوجيا علي هذا النحو. ارجو ان تكون هذه الرسالة قد وصلت لمن هم في السلطة.
البديل الثاني هو بديل الدولة الفاشلة , وهو الذي نراه يتجسد امامنا تباعا من تراجع واضح في اهم وظائف الدولة علي الاطلاق وهي : تحقيق الامن و الانضباط في سلوك افراد المجتمع. عشرات الاحتجاجات اليومية ' حوالي سبعين يوميا في المتوسط في آخر ثلاثة شهور ' بما فيها من تعطيل للمصالح و المنشآت العامة. ويخطئ من يتصور ان فشل الدولة يعالَج بمزيد من الانفاق علي وزارة الداخلية , وتعزيز قدرتها القمعية , وانما العلاج يكون بالعدالة بمعنييها : الجنائي و الاجتماعي. وهما معركتان كبيرتان تحتاجان الي رؤية وتخطيط ومساحة من الوقت , لكن قبل ذلك ثقة في ان من هو في السلطة يملك الرؤية و الخطة , وبالتالي يُعطي الفرصة و الوقت المطلوب. واخطر ما في ' فشل الدولة ' انه يبدا من الظلم الذي يستشعره الانسان وينتهي بان يتحول المظلوم الي ظالم لانه يستشعر ان شركاءه في الوطن لا يهتمون بالظلم الواقع عليه. ويشيع الظلم المتبادل حتي تنهار مؤسسات الدولة المختلفة وتتراجع اسباب التعايش السلمي بين افراده. وتكون المسئولية المباشرة علي القيادة في ان تعيد انتاج خطاب التعايش وان تتخذ خطوات عملية نحو تحقيق العدالة واقامة اسباب التعايش السلمي. وهي لن تنجح في ذلك الا بان تكون ' قائدة ' للجميع وليس فقط للمؤيدين و المناصرين.
البديل الثالث هو بديل الحرب الاهلية , وهو بديل محتمل ولا يجوز الاستخفاف باحتماله حتي ان لم تكن حربا شاملة علي النحو الذي شهدته دول اخري , يكون الانقسام الديني و اللغوي و العرقي فيها اشد , لكن المعضلة الآن ان الانقسام الذي ظهر منذ الايام الاولي بعد الثورة تحول الي استقطاب في ظل ادارة المجلس العسكري لشئون البلاد , تحول الي احتقان بعد الاعلان الدستوري في نوفمبر 2012. و الغريب ان القليل يُفعل من قِبل الرئاسة ومن قِبل النخبة الحاكمة لمواجهة الغليان المتزايد نتيجة وعود اخلفها الرئيس و التزامات تجاهلها المنتسبون اليه. وشرارة الحروب الاهلية من السهل ان تبدا مع وجود اعداد كبيرة من المتظاهرين و المتظاهرين المضادين من فريقَي السلطة و المعارضة , ومع تراجع قدرة الشرطة علي حماية الاشخاص و المنشآت , سيقوم كل فصيل بالدفاع عن نفسه بنفسه , ومع تراجع ثقة الناس في السلطة القضائية , سيقوم كل فصيل بالقصاص لنفسه بنفسه. ومع انتشار السلاح بكميات كبيرة , ومع نجاح السياسيين و الاعلاميين و المتحدثين باسم الدين من الطرفين في ' شيطنة ' الآخر , كل المطلوب الآن هو شرارة الانطلاق. وهذا ما اسال الله ان يعصم دماءنا منه.
البديل الرابع هو العودة للاستبداد , وهو في هذه الحالة مرتبط اساسا بانقلاب عسكري كنتيجة منطقية لاستمرار الدولة الفاشلة او لاندلاع حرب اهلية. وكلاهما يعني فشل التجربة الديمقراطية في مصر . لان نخبتها وقطاعا من شعبها ليسوا مستعدين للديمقراطية وتتحقق نبوءة النظام السابق. وهنا سيكون تدخل القوات المسلحة كمؤسسة عبر انقلاب ناعم غالبا سيكون له مؤيدوه من معارضي النظام القائم. ويبدو ان قيادة القوات المسلحة لا تفضل هذا البديل بعد تجربة مريرة للتداخل مع المشهد خلال الفترة الانتقالية , ولن تقدم عليه باعتبارها راغبة فيه والا سوف تستنسخ سيناريو الجزائر عبر حرب اهلية مع التيار الموجود في السلطة , وانما سيكون تدخلها لمنع استمرار فشل الدولة او الحرب الاهلية ان حدثت لا قدر الله. المعضلة الاساسية في هذا البديل انه سياخذنا الي نقطة الصفر علي كل المستويات , وهو ما ستكون له انعكاسات خطيرة علي كل مناحي الحياة , بما في ذلك احتمالات التحول الديمقراطي لاحقا. الحكم العسكري يقوم ابتداء علي نظرية ان اشباع حاجات المواطنين الاساسية هي اقصي المطالب ولكن دون مساءلة او تداول سلمي للسلطة او تعدد في مراكز صنع القرار , وتوغل اكبر للعسكريين في الحياة المدنية بعدما بدا انحسار هذه الظاهرة.
يقول تاريخ المجتمعات المختلفة : ان اي بديل من هذه البدائل ليس حتميا بذاته وانما من الممكن ان تتعايش البدائل مع بعضها البعض مثل ان تظل الديمقراطية الشكلية في ظل دولة فاشلة امنيا.
كما ان هناك فترات في تاريخ الدول و المجتمعات تكون فيها ' غير قابلة للحكم ' ' ungovernable ' لاسباب مختلفة بعضها يرتبط بالنخب الضعيفة و المنقسمة وبعضها مرتبط بنزعة الافراد نحو التمرد و التمرد المضاد , نتيجة عدم احترام قواعد الحكم الديمقراطي. وعليه لو وصل للسلطة احد قيادات المعارضة , فما الذي سيمنع القوي المحافظة دينيا من ان تنزل الي الشارع باعداد كبيرة لتطالب بنقيض ما تطالب به المعارضة الآن؟
وعليه ستحكم مصر بنظرية ' الاهل و العشيرة ' وليس بنظرية ' الديمقراطية وحكم القانون ' .
اعتقد ان رئيس الجمهورية اتخذ قرارا خاطئا في الايام السابقة علي 22 نوفمبر 2012 بان يكون مصدر معلوماته وبدائله السياسية من الحزب و الجماعة وليس من فريقه الرئاسي ومستشاريه الذين كانوا يمثلون شرائح اكثر تنوعا سياسيا وفكريا واكثر قدرة علي قراءة نبض الشارع المصري بتنويعاته. خطا كبير ولم يتم التعامل معه بالحكمة الكافية.
هذا المقال كُتب في صباح يوم الجمعة 25 يناير 2013.
ملحوظة للمستقبل : في هذه المرحلة من تاريخنا هناك شباب افاضل في المرحلة الثانوية او في اوائل التعليم الجامعي , قد يقراون هذا الكلام لاول مرة بعد عدة سنوات , وسيخرج منهم من يقول ان كاتب هذه السطور كان ينادي بانقلاب عسكري او يامل في ان تكون مصر دولة فاشلة. مثل هذه المقالات التحليلية لا تمدح ولا تقدح وانما هي تستشرف وتُقيم سعيا لاقامة نقاش بين العقلاء , وكي يحدث هذا هي تستعرض البدائل المختلفة. وعليه فان اقتطاع اي جزء من المقال عن سياقه ليس مسئولية كاتبه . لذا لزم التحذير .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق