
حين غابت الدولة المصرية عن احداث الاربعاء الماضي فهل كان ذلك تعبيرا عن الضعف ام الارتباك ام عن الصبر و الحكمة؟ ذلك ان المرء لا بد ان يحيره ان يخرج جماعة من الناس , فيحاصروا البورصة. ثم يعطلوا حركة شبكة المترو ويمنعوا المرور فوق اهم جسر في العاصمة ' كوبري اكتوبر ' الامر الذي يصيب الحياة في القاهرة بشلل مفاجئ , ثم لا نري اثرا للدولة في مواجهة كل ذلك. وهو حين يقع في وقت خروج الموظفين قبل يوم من عطلة المولد النبوي , فلك ان تتصور كم الاختناق و الغضب الذي سيطر علي اهل المدينة من جراء ذلك. لذلك وجدنا ان جريدة الاهرام تعمدت التنويه الي غياب الدولة في العنوان الرئيسي للصفحة الاولي من عدد الخميس 24/1 في حين كان مانشيت جريدة الوطن يتحدث عن اعلان دولة الالتراس.
والالتراس لمن لا يعرف هم قبيلة جديدة نسبيا من الشبان الاشداء الذين يعتبرون انفسهم عماد انصار وعشاق الفريق الرياضي , الذي يلازمونه طول الوقت ويذودون عن حياضه بمختلف الوسائل اذا لزم الامر. ولان النوادي الكبيرة متعددة في مصر فقد صار لكل فريق قبيلته. و الالتراس الذي فعلها في القاهرة يوم الاربعاء هم عناصر قبيلة النادي الاهلي. وما فعلوه كان بمثابة رسالة انذار للحكومة المصرية التي يرون انها تقاعست عن حسم قضية 72 من اخوانهم قتلوا في بورسعيد في اعقاب مباراة كرة القدم التي اقيمت في الاول من فبراير عام 2012 بين النادي الاهلي القاهري و النادي المصري الذي يمثل بورسعيد. وهم يدعو بان التراس بورسعيد هو المسئول عن قتل ذلك العدد الكبير من مشجعي النادي الاهلي , ويطالبون بالقصاص لقتلاهم و الثار لهم من التراس النادي المصري في بورسعيد. وكان يفترض ان يصدر الحكم في القضية اليوم ' السبت 26/1 ' ولكن الجلسة اجلت بعد الاعلان ان ثمة ادلة جديدة في القضية استدعت فتح باب المرافعة فيها مرة اخري. وفيما فهمت فان ذلك التاجيل فسر بحسبانه احدي حلقات التسويف من جانب السلطة في مصر , التي باتت تخشي الاصداء التي يمكن ان تترتب علي القضية من جانب التراس بورسعيد. هذا اذا قضت المحكمة بادانته. كما ان الحكومة تخشي من ردود افعال التراس النادي الاهلي اذا لم يكن الحكم مرضيا لهم. ومحققا مطلب الثار الذي ينادون به.
ما فهمته من المراجع ذات الصلة بالمحيط الرياضي ان الحساسية و الضغائن بين القبيلتين عمرها نحو سبع سنوات , ظل التراشق بينهما مستمرا ولم يحاول احد اجراء مصالحة بينهما حتي وقعت الواقعة , وحشرت الحكومة بين الطرفين. اذ لم تكن علي استعداد لان تتحمل عاقبة انفجار غضب هذه القبيلة او تلك , ولم تكن مطمئنة الي ان حكم القضاء الذي يحسم الامر يمكن ان يكون مقبولا من هذا الطرف او ذاك. ولذلك فانها آثرت ان تمسك العصا من المنتصف وتحاول تهدئة خواطر الطرفين.
واغرب ما لجات اليه الحكومة في هذا السياق ان قرارا صدر باعتبار القتلي من مشجعي النادي الاهلي ' شهداء ' لهم حقوق ومعاشات شهداء الثورة. ورغم التعاطف المفترض مع اولئك الاشخاص وذويهم , فان تلك هي المرة الاولي التي يعد فيها شهيدا من ذهب لتشجيع فريقه لكرة القدم. وكان مشيرا ان ذلك لم يحدث مع جنود الامن المركزي الذين قتلوا في حادث قطار السكة الحديد , ولا مع الخمسين طفلا الذين قتلوا ذات صباح حين صدم قطار الصعيد الحافلة التي استقلوها لكي يصلوا الي مدرستهم.
الرسالة التي وجهها التراس النادي الاهلي يوم الاربعاء , عقب الاعلان عن تاجيل جلسة النطق بالحكم , استهدفت توجيه انذار للحكومة اذا ما استمرت في تعليق الموضوع. وفيما فهمت مما نشرته وسائل الاعلام فان شل حركة الحياة في القاهرة كان بمثابة ' لفت نظر ' للحكومة , وان هذه الخطوة يمكن تصعيدها بخطوات اخري اذا لم يتحقق القصاص المنشود. صحيح ان الخروج الي الشارع بات من تقاليد الخطاب الاحتجاجي في مصر بعد الثورة , الا ان ما فعله التراس الاهلي كان نموذجا للخروج الذي حاول منذ لحظة انطلاقة ليس الي رفع الصوت , وانما يعمد بشكل مباشر الي ايقاف الحياة وتعطيل مصالح المواطنين , الامر الذي يتعذر القبول به تحت اي ظرف.
في مواجهة ما جري يوم الاربعاء اختفت الحكومة وبدا ان قبيلة التراس الاهلي هي سيدة الموقف , وهو ما برر الاشارة الي ان ما جري كان بمثابة اعلان لدولة الالتراس. فلا الحكومة تحركت ولا هي تكلمت. بمعني انها لم توقف ممارسات الالتراس عند حدها المعقول , ولا فسرت لنا لماذا وقفت متفرجة مشلولة بدورها ولم تفعل شيئا. هل هو الخوف و الضعف , ام انه الارتباك , ام انه الصبر وطول البال؟ لا اعرف علي وجه التحديد , لان ثمة حججا وسوابق ايضا تؤكد كل احتمال.
لكن اسوا ما في الامر هو الخلاصة التي تسلمناها نحن وادركنا منها ان السلطة خرجت لمكان مجهول في ذلك اليوم ولم تعد الا في صباح اليوم التالي لاطفاء حريق مبني محطة السكة الحديد الذي حاول البعض احراقه بعدما تم تجديده.
اكتب هذا الكلام ويدي علي قلبي صبيحة يوم جمعة الخروج المفترض في ذكري 25 يناير , متمنيا الا يتحول المتظاهرون بدورهم الي ' التراس ' وان نري للدولة اثرا في قلب العاصمة الذي لم يعد يحتمل مزيدا من الاوجاع.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق