في عام ٢٠٠٤ في وقت كان العسكريون الامريكيون فيه مزهوين بما بدا انتصارا في العراق , وكان مواطنوهم ومثقفوهم مخدَرين بدعاوي ترويج الديموقراطية و ' حقوق الانسان ' , فاجات ' النيويوركر ' ' توزع قرابة النصف مليون نسخة اسبوعيا ' قراءها , بل و العالم كله بتحقيق لكاتبها الاشهر سيمور هيرش , يكشف فيه عن فضائح ' سجن ابوغريب ' , بالضبط كما فعل اواخر الستينيات حين كشف بالادلة مذبحة May Lai ' حيث قامت مجموعة من الجنود الامريكان لمدة يوم كامل بابادة جميع سكان قرية فيتنامية تدعي ' صن ماي ' عرفت علي خرائط الجيش الامريكي بMy Lai 4 ' .
يومها لم نسمع ان ' الصحافي ' قُدم لمحاكمة عسكرية , او تم التحقيق معه امام ' نيابة خاصة ' مثل تلك التي ينص عليها القانون الجديد المسمي بحماية الثورة , بتهمة ' اثارة المشاعر ' , او المساس بالامن القومي , او اهانة المؤسسات -- او ما الي ذلك من لائحة طويلة للتهم التي يمكن ان يواجه بها الصحفي و الصحيفة و الناشر في مصر في زمن ما بعد ثورة شعبية كانت تضع ' الحرية ' احد مطالب ثلاثة تتصدر هتافاتها.
تتجسد في قصة الصحفي المخضرم سيمور هيرش الطويلة ثنائية ' الصحفي و السلطة ' . وتبين كيف ان ' حرية ' الصحافة المراقِبة للسلطة هي بحكم النتائج في صالح المجتمع و الناس -- و البلد في نهاية المطاف. وتكشف لنا لماذا تتقدم المجتمعات التي تقبل ان تدفع ' ثمن ' حرية الصحافة و النشر , عن تلك التي تتصور ان دور الاعلام هو ' تربية ' الجماهير , وتعبئتها خلف اهداف الدولة.
دخل سيمور هيرش ' واكتب هنا من اوراق كنت دونتها عنه عندما التقيته قبل سنوات ' عالم الصحافة من بابه الحقيقي . ' الحوادث ' . حيث اكتسب خبرة ميدانية ليصبحَ ' صحافيا حقيقيا ' . وحيث يحدثُ احيانا كما تعودنا هنا ان يغترَّ بالقوة من يملكُ سطوتها فتاخذه العزةُ بالاثم , اكتشفَ الصحفيُ المبتدئ حقيقة الظلم الذي ربما لا يراه احد. ذهب هيرش الي احد مخافر الشرطة لتغطية حادثة مصرع سجين اسود خلال محاولته الهرب , وهناك سمع احد رجال الشرطة يحكي لزميله ' متباهيا ' كيف اوهمَ السجين انه قد افرج عنه ثم اطلق النار عليه من الخلف وهو يبتعد , ثم ادعي انه كان يحاول الهرب. ' في محاكاة مع التصرف لقصة خالد سعيد ' . وتحديا لهيستريا التفرقة العنصرية السائدة في ذلك الوقت , نشر هيرش القصة الصادمة. ثم لم يات عام ١٩٦٩ الا وكان قد صدم قراءه مرة اخري باول تقرير عن مذبحة ' ماي لاي ' في جنوب فيتنام , ليصبحَ بعد ذلك اهم صحافيي التحقيقات في امريكا. وليفوز بجائزة ' بوليتزر ' عن كتابه عن الموضوع. و الذي اتبعه بكتاب اخطر كشف فيه تواطؤ الجيش الامريكي بهدف تغطية مسئولية ضباطه عما ارتكبوه.
ولم تكن تلك هي المرة الوحيدة التي اصطدم فيها هيرش مع مؤسسات ' السلطة ' , اذ هكذا الصحافة الحقيقية ' بالتعريف ' فقد ساهم في كشف قضية المرض الغامض الذي اصاب بعض الجنود الذين خاضوا حرب الخليج الثانية في كتاب حمل عنوانا صادماAgainst all enemies : Gulf war syndrome. The war between America.s ailing veterans and their government. ثم كان ان نشرت له النيويوركر مقالا في ٢٥ الف كلمة احتل صفحات عدد باكمله من المجلة الشهيرة , عرض فيه تفاصيل المذبحة التي ارتكبها الجنرال ماكافري قائد الفرقة ٢٤ الامريكية يوم ٢٠ مارس ١٩٩١ ' بعد وقف اطلاق النار ' في حرب الخليج الاولي , التي راح ضحيتها مئات من العراقيين , ليس فقط من بين الجنود الذين كانوا قد شرعوا في الانسحاب ولكن ايضا بين الجرحي و الاسري المدنيين الذين كانوا علي متن سيارات الاسعاف. وهو الاتهام الذي يعد بكل المقاييس جريمة حرب.
ويشار الى تاريخ الصحافة و السياسة الامريكية كذلك تحقيقات هيرش الصحافية الصادمة التي تناولت ' كيف اثَّر الجنس و الجريمة و الفساد لعائلة كنيدي علي السياسة الامريكية ' . وتلك التي طالت دور الCIA في مساندة انقلاب الجنرال بينوشيه في تشيلي عام ١٩٧٣ الذي اطاح بالرئيس المنتخب سلفادور الليندي وقضي علي اهم تجربة ديمقراطية في امريكا الجنوبية. وبالطبع لا داعي لتكرار الاشارة الي اننا لم نسمع من يتهمه يومها ' بالاساءة الي صورة الولايات المتحدة في الخارج ' او تهديد الامن القومي.
_ _ _
ليس بعيدا عن هذه القصة الطويلة , ما شهدته واشنطن عام ١٩٧٤ بعد ان نجح صحفيان في الواشنطن بوست ' بوب وودوارد ومايكل برنشتاين ' علي مدي عامين كاملين في التسلل الي سراديب السلطة الغامضة , و الكشف عن تورط ادارة الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون في التستر علي عملية تجسس علي مقر الحزب الديموقراطي في فندق ' ووترجيت ' بدعوي الحفاظ علي الامن القومي وقتها , وهو الامر الذي انتهي بفضيحة اخذت اسم الفندق. ' واصبحت اصطلاحيا علامة علي كل فضيحة ' وادت الي الاطاحة بالرئيس الذي اضطر للاستقالة في اغسطس ١٩٧٤.
رغم انهما كانا قد تسللا الي ' اسرار القصر ' ومكتب التحقيق الفيدرالي FBI لم يُجبر الصحافيان ابدا علي الكشف عن ' مصدر معلوماتهما ' , وظل اسمه سرا ثلاث عقود كاملة حتي كشف الرجل بنفسه عن نفسه بعد ان بلغ التسعين من العمر. كما لم ' يدخل ' الصحافيان ابدا الي مكتب المدعي العام للتحقيق. بل كان الرئيس هو الذي ' خرج ' من البيت الابيض -- ومن التاريخ.
_ _ _
في الواقعتين كان مناخ الحرية ' الكاملة ' , و العمل ' الحقيقي ' الدءوب , و الشجاعة في مواجهة اصحاب النفوذ , وراء القصة الصحفية , وقدرتها علي كشف ما اراد له البعضُ ان يظل خافيا. تلك الحرية التي هي كما قلت في هذا المكان قبل اسابيع ليست ' ريشة علي راس الصحافيين ' كما يحاول البعض ان يقول مستنكرا تمييز يدعيه. فتلك الحرية هي في حقيقتها ' حق للمواطن ' لا للصحفي في ان يعرف. ولولاها , ما كنا عرفنا بفضيحة ووترجيت , ولا ما جري في ' ابوغريب ' , ولا ' ماي لاي ' , ولا حتي ما جري في صبرا وشاتيللا لو تذكرون. ببساطة , لولا هذه الحرية , التي لا يُرهِبها نفاد صبر الذين في السلطة , ما عرف المواطن الامريكي ما ينبغي ان يعرفه -- وما كان نيكسون بجريرته قد غادر البيت الابيض. بل وربما ما كانت امريكا قد انسحبت وقتها من فيتنام.
_ _ _
و بعد -- سيقولون : ليس كل صحافي هو سيمور هيرش او بوب وودوارد , وليست كل صحيفة هي النيويوركر او الواشنطن بوست -- اعرف. ولكني اعرف ايضا اننا نتعلم. واي طفل لن يمكنه ابدا ان يتعلم المشي الا اذا تعثر مرة ومرات , وجرحت ساقه وربما راسه. فلكل شيء ثمن -- وللديموقراطية ايضا ان كنتم صادقين في طلبها ثمن .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق