حين خرج المنتخب السعودي من الدور الاول لبطولة كاس الخليج. عقد الاتحاد السعودي لكرة القدم علي الفور اجتماعا استمر ثلاث ساعات تقرر فيه اقالة المدرب فرانك ريكارد واستبعاد الجهاز الاداري للمنتخب. حدث ذلك يوم الاربعاء الماضي 16/1. وقبله بيوم واحد كان الاتحاد القطري قد اقال المدرب البرازيلي للمنتخب باولو اوتوري لذات السبب. وليس ذلك امرا استثنائيا لان مثل هذه الاقالات السريعة اصبحت من تقاليد المحيط الرياضي في العالم العربي بوجه اخص. الامر الذي يسوغ لي ان ازعم انه اسرع تغيير يحدث في بلادنا , لان خبرتنا في مجالات الاخفاقات وهي كثيرة للاسف لا ترتب بالضرورة الاقالة او الاستقالة , لان المسئول عندنا كلما علا مقامه كلما بعد عن دائرة المسئولية و الحساب. وما الثورات التي تتابعت في العالم العربي الا دليل علي ان الجماهير قد فاض بها الكيل من كثرة الاخفاقات و المفاسد , ولم تجد وسيلة لاقصاء المسئولين عنها الا باعلان الثورة و الاصرار علي الاطاحة بالانظمة القائمة و المسئولين عنها.
وحدها الرياضة اصبح يمارس فيها التغيير السلمي للمدربين بمنتهي السرعة و الحزم. اذ ما ان يخسر الفريق اللاعب , حتي يصب مسئولو الاتحادات الرياضية جام غضبهم علي المدرب , فيسارعون الي اقالته في نفس يوم الخسارة. حين حاولت تحري السبب وراء ذلك قيل لي ان المدرب الاجنبي هو اول ثمن يدفع لاخفاق الفريق اللاعب , لان اعضاء مجلس الادارة عادة ما لا يكونون مستعدين للاعتراف باية اخطاء وقعوا فيها واسهمت في النتيجة السلبية. من ثم فاسهل وسيلة للتهرب من المسئولية تكون بتوجيه اصابع الاتهام الي المدرب و الاسراع في اقالته و التضحية به , ' لا تنس ان الحق دائما علي الطليان في موروثنا الشعبي ' . وهذه الاقالة لا تبرئ ساحة بقية المسئولين عن اللعبة فقط , ولكنها ايضا تمتص غضب الجمهور الذي يتزايد اهتماه بكرة القدم يوما بعد يوم.
لا استبعد هذا التفسير واري فيه بعض الوجاهة , لكني اضيف اليه عنصرا آخر وثيق الصلة بثقافة عصر الفرجة , الذي تلعب فيه الصورة التي يجري بثها علي شاشات التليفزيون دورا اساسيا في تشكيل الادراك , ودغدغة مشاعر الجماهير. ومن هذه الزاوية تحتل مباريات كرة القدم مكانة خاصة. ذلك انها تمارس تحت اعين الناس الذين يتابعون حركة واداء كل لاعب , فيبتهجون او يكتئبون وهم يرون النصر او الهزيمة يصنع علي ايديهم.
في عصر الفرجة ترتبط الجودة و القيمة بالرؤية و المظهر. ويصبح النجوم هم الذين تقدمهم الشاشات ويحركون المشاعر المباشرة. اما العاكفون في المعامل و الصوامع ودور الكتب وغيرهم ممن لا تري لهم صور فلا مكان لهم في خرائط الوعي الراهن. بل انهم يسقطون من الذاكرة ولا ينالون حظهم من التقدير. ذلك انه طالما ارتبطت القيمة بالمظهر فان الذين لا يظهرون يصبحون بلا قيمة , حتي اذا انصفهم التاريخ في المستقبل.
كرة القدم كلها فرجة من اول المباراة الي آخرها. شانها في ذلك شان التمثيل علي المسرح و الغناء في الحفلات العامة. الا ان كرة القدم تتميز بما تسفر عنه من اهداف. بمعني انها توصل البهجة بمعيار واضح ونتائج محددة , وهذه قد لا تضيف شيئا الي حياة الناس العملية , لكنها تستمد قيمتها مما تشيعه من فرحة وترحاب.
مباريات كرة القدم اذا كانت نتائجها ايجابية فانها تشيع احساسا بالتفوق لا علاقة له بالتقدم. و التفوق في هذه الحالة يتحقق بسرعة , وربما تبخر اثره بسرعة ايضا , لكن التقدم مثل الصناعة الثقيلة يحتاج الي نفس طويل ووقت , الا انه يبقي ثابتا علي الارض. و التفوق يمكن استجلابه واصطناعه وربما شراؤه ايضا , عبر استعارة واغواء افضل المدربين واكثرهم شهرة وانجازا. اما التقدم فلا يمكن استجلابه ولا شراؤه لصلته الوثيقة بالقيم الاجتماعية و السلوكية السائدة.
في الفراغ السياسي المخيم علي العالم العربي اصبحت الاندية و الفرق الرياضية اهم بكثير من الاحزاب او الجماعات السياسية القائمة. وقد ساعدت الفضائيات علي تضخيم دور وتعزيز اهمية تلك الاندية و الفرق. وبسبب شح التفوق في ميادين التقدم الحقيقية خصوصا ما تعلق منها بالمعرفة و الابتكار , فان الفوز في مباريات كرة القدم اصبح له رنينه القوي , الذي تردد الشاشات اصداءه بسرعة , وتنجذب اليه الجماهير بقوة لانه يعطيها احساسا مؤقتا بالنشوة , لا يغير من شيء في حياتهم , وانْ احدث تغييرا عابرا في امزجتهم.
لقد سوق لنا عصر الفرجة اوهاما كثيرا , حتي صرنا ناسي ونغتم لخسارة مباراة او للخروج من مسابقات الكاس او الدوري , في حين لا يحرك فينا شيئا ان تستبعد جامعاتنا من قائمة المؤسسات العلمية المحترمة , او تلاحقنا الهزائم في مجالات التقدم الحقيقية. في عصر الفرجة اصبحت الصورة هي الاهم , اما الاصل فلا تسال عنه!
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق