مبدأ طرح السؤال مستهجن و بداية لعصر الانحطاط فهمي هويدي


هل يعقل ان يتساءل احد في هذا الزمان عما اذا كان يجوز تهنئة الاقباط بعيدهم ام لا؟ لست استهجن الذين افتوا بكراهية تهنئتهم او حرمتها , لكنني استهجن مبدا طرح السؤال , لانه يفضح المدي الذي بلغه التردي العقلي و الفكري الذي وصل اليه البعض , ممن اعتبروا ان بغض الآخر و الارتياب فيه هو الاصل. في الوقت ذاته فانني ازعم ان الفتوي التي ذاع امرها في الآونة الاخيرة تعد فضيحة اكبر. ذلك ان السائل اذا كان من عوام الناس الذين اختل وعيهم الديني , فان المجيب يفترض فيه انه من اهل العلم , وهو ما يصدمنا حقا ويفزعنا. لانه اذا كان ذلك شان بعض اهل العلم فما بالك ببسطاء الناس وقليلي البضاعة من العلم. ولا تقف الكارثة عند ذلك الحد , لانني وجدت ان الامر اخذ علي محمل الجد , وتحول الي موضوع للمناقشة بين من يؤيدون الفتوي ويعارضونها , كاننا بصدد نازلة استجدت في هذا العصر , فحيرت ' المجتهدين ' الذين تراوحت آراؤهم بين الحظر و الاباحة. في حين ان المشهد كله ينطبق عليه قول الجاحظ. من حيث انه يعبر عن ' سقم في العقل وسخف في الراي , لا يتاتيان الا بخذلان من الله سبحانه وتعالي ' .

انني لا استطيع ان افصل بين تلك الفتوي وحملة ' تسميم الاجواء ' الراهنة , التي نبهت اليها في مرة سابقة. اذ لا اجد فرقا بين اصطياد بعض الصحف لنماذج المعتوهين و المختلين عقليا وافراد الصفحات لآرائهم في امور الدين و الدنيا , وبين اولئك الذين يروجون لاكثر الآراء شذوذا وتعارضا مع تعاليم الاسلام ومقاصده. وهؤلاء وهؤلاء لا يهينون الآخرين وينفرون الناس من الاسلام فحسب , لكنهم يهينون الاسلام ذاته من حيث انهم يشوهون تعاليمه. وحين يحدث ذلك و الاسلاميون في السلطة , وثمة تعبئة ضدهم تطل من كل صوب وثمة انتخابات برلمانية آتية بعد اشهر معدودة , فان سيناريو تسميم الاجواء يصبح واردا ان لم يكن مرجحا.

قبل نحو ثلاثين عاما دعا احد خطباء الجمعة في حي الدقي بالقاهرة الي عدم مصافحة المسيحيين او القاء السلام عليهم. وهو ما انتقدته علي صفحات جريدة الاهرام. وحينذاك اتصل بي هاتفيا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله , وقال ضاحكا ان الرجل ينهي عن مصافحة المسيحي في حين ان الاسلام اباح للمسلم ان يتزوج من مسيحيه , وان يعيش الاثنان تحت سقف واحد , وينجبا اطفالا اخوالهم من المسيحيين. لكن امثال اولئك ' الجهال ' يستكثرون علي المسلم ان يصافح غير المسلم , ويستكثرون علي المسلمين ان يعيشوا مع غير المسلمين في وطن واحد. وختم كلامه قائلا : لا تضيع وقتك مع امثال هؤلاء , لانك لو تتبعت كلامهم فسوف تجد عجبا وسيشغلك ذلك عن الكثير مما ينفع الناس , وخير لك ان تخاطب العقلاء ولا تلق بالا لخطاب الحمقي.

من جانبي اعتبرت الموضوع منتهيا وتصورت اننا تجاوزناه. لكنني اشرت اليه لاحقا في كتابي الذي صدر في عام 1985 تحت عنوان ' مواطنون لا ذميون ' . اذ خصصت فصلا كان عنوانه ' شبهات واباطيل ' تطرقت فيه لبعض الافكار السلبية و الملتبسة التي شاعت في التعامل مع غير المسلمين. وكان منها الحديث النبوي , الذي رواه ابوهريرة ونقل فيه عن رسول الله قوله : ' لا تبداوا اليهود و النصاري بالسلام. واذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم الي اضيقها ' . وهو الحديث الذي اثار جدلا بين الفقهاء عرضت خلاصة له في الكتاب. وقد ناقشت الموضوع في بضع صفحات كان عنوانها : اجراء استثنائي في ظروف استثنائية. وقلت ان كلام النبي عليه الصلاة و السلام كان بمثابة تحذير للمسلمين صدر في وقت اشتد فيه التآمر عليهم من جانب هؤلاء. ولعب المنافقون دورهم في الوقيعة بين الطرفين. وخلصت الي ان التوجيه النبوي ' كان اجراء مؤقتا اقرب الي فكرة المقاطعة في اعراف زماننا , لمواجهة سلوك محدد تعالت فيه البغضاء من بعض اليهود و النصاري ' . وفي غير ذلك فالاصل في علاقة المسلمين باصحاب الديانات الاخري هو ' البر و القسط ' طبقا للنص القرآني. علما بان الرسول ذاته الذي اصدر ذلك التوجيه قد مات ودرعه مرهونة عند يهودي. وكنت قد اشرت في السياق الي النص القرآني الذي يكفل الكرامة لكل بني آدم بصرف النظر عن عقائدهم , والي واقعة قيام النبي عليه السلام ووقوفه حين مرت جنازة لميت امامه. وحين نبهه احد صحابته الي ان الميت يهودي , فكان رده : اليست نفسا؟

من قراءتي للتاريخ وجدت ان الآراء التي تدعو الي مخاصمة الآخرين وبغضهم تجد رواجها في عصور البلبلة و الانحطاط. ولاحظت انها شاعت في اواخر سنوات الامبراطورية العثمانية , التي منع فيها اليهود و المسيحيون من السير في عرض الطرق ' اطلق عليها نظام التطريق ' . وقد طبق في لبنان حتي بدايات القرن الماضي. وقد اخافتني تلك الملاحظة , لانني فهمت ان تتردد الدعوة الي عدم تهنئة المسيحيين في اجواء البلبلة الراهنة , لكني خشيت ان تكون تلك بداية لانجرارنا الي مرحلة الانحطاط .

ليست هناك تعليقات :