وبعد ان فشلت الجهود , كالعادة , عدنا الي نقطة الالتقاء لنقرر بشان الخطوة القادمة. وكان معنا من ينظر نظرة سلبية للغاية لقيادات الشرطة و الجيش , وربما للمؤسستين اصلا , ولكن المثير كان شهادة هؤلاء حين راوا عددا من جنود الامن المركزي وبعض الضباط المصابين بجروح في الوجه و الراس وبعضهم اصابهم شيء من الحريق في اجزاء مختلفة من الجسم. واتضح لهم ان ما يحدث علي كل من الضفتين متقارب لحد بعيد : الدم واحد , الجرح واحد , المصاب واحد , سواء كان من هنا او هناك. ولكن كل طرف يحكم علي الامور في حدود ما هو متوافر له من معلومات وتصورات , وفي ضوء ما هو غائب عنه من معلومات وتصورات عن الطرف الآخر. وهذا ليس غريبا , فهذه هي دوائر المعرفة وجدران الجهل التي يتحدث عنها علماء النفس الادراكي.
سياسيا , اللوم يقع بشكل مباشر علي من يتخذ من القرارات و السياسات او يمتنع عن اتخاذ القرارات و السياسات التي تمنع هذه المواجهات التي يروح ضحيتها عدد من ابنائنا. و الادانة تكون اكبر بالضرورة لمن هم في مواقع السلطة لان سوء ادارتهم للمشهد واخفاقهم في صناعة وصياغة الخيال السياسي وتحديد اجندة وطنية جامعة لكل المصريين هي البيئة الطبيعية لكل هذه المواجهات.
هذه مقدمة موضوع اكبر , وهو ان من لم يغادر الميدان قط , ولم يرَ الحكومة في مصر من الداخل , يطلق الخيال لاحلامهم المشروعة دون ان يكون لديهم الالمام الكافي بتعقيدات المشهد الداخلي. هؤلاء قدرتهم علي الخيال اكبر كثيرا من احساسهم بالواقع , و الكلام نفسه ينطبق علي من دخل الديوان ولم يكن شريكا في الميدان حيث تبدو قراءته للمشهد بعيدة كثيرا عما يتداوله الناشطون من الجيل الجديد.
هذه الفجوة في الادراك , و الفجوة في الحلم , و الفجوة في الاحساس بالواقع , هي جزء من معضلة المشهد السياسي الذي نعيشه. بل هي الفخ الذي وقعنا فيه بالفعل. نحن بحاجة لنشر ثقافة جديدة تجمع بين القدرة علي الخيال ' power of imagination ' و الاحساس بالواقع ' sense of reality ' . مع ملاحظة ان الواقع مؤلم , وسيكون اكثر ايلاما بسبب التردي في الاخلاق المتفاعل مع التردي الاقتصادي المتفاعل مع التردي الامني المتفاعل مع التردي السياسي. و الخيال جامح ويزداد جموحا مع المتاجرين بالخيال و الذين يصورون ان مشاكل مصر اجرائية بروتوكولية تقتضي ' شوية ' قرارات فقط.
مصر دولة متخلفة. وتخلفها ليس جديدا , هو موروث , ومن يقرا للجبرتي يكتشف ان تخلفنا الحاضر هو التطور الطبيعي للتردي الاخلاقي الذي كان سائدا من قرنين من الزمن. وبما اننا بصدد من قد لا يجد وقتا للقراءة , طيب ماذا عن مشاهدة اول عشر دقائق من فيلم ' لعبة الست ' لنجيب الريحاني لنجد فيها تجسيدا لمجتمع الواسطة و الغش و التدليس و الكذب الذي كان سائدا من مائة سنة.
السلطة تدلس وتكذب , طيب ما هذا هو العادي و المتوقع. المعارضة تدلس وتبالغ , طيب ما هذا هو العادي و المتوقع. الكل ' يخوّن ' الكل , طيب ما هذا هو العادي و المتوقع في بيئة تسيطر عليها مخاوف ان الدولة تتاخون. الاخونة و التخوين عمليتان سياسيتان وفكريتان يغذي بعضهما بعضا , وتعبران عن مجتمع متخلف في قدرته علي التفكير السوي و القياس النظري السليم.
اجتمعت مع ابن صديق وعدد من الشباب لمناقشتهم في بعض افكارهم من قبيل ان ' يا ليت كان ما حدث في سوريا يحدث في مصر وان يتم تدمير مؤسسات الدولة لان كلها فاسدة وان الجيل الكبير افسد كل شيء ' . خلاصة الاجتماع نحن امام جيل جديد لديه جراة هائلة في طرح افكار عظيمة بعيدة تماما عن القابلية للتحقق في المدي القصير. ومع ذلك هذا حقهم في الخيال , وواجبنا ان نساعدهم وان نساعد انفسنا في تغيير الواقع كي يقبل هذا الخيال. مصر اصبحت معسكرين في كل شيء وبناء الجسور بينهما هو المعضلة الاكبر لاسيما ونحن مقبلون علي مصاعب اقتصادية هائلة.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق