الي غير ذلك من القرائن التي تشير الي ان جهاز الشرطة بوضعه الحالي لايزال اقرب ما يكون الي نظام مبارك , وليس الي قيم الثورة واجوائها. لا اريد ان اقلل من الجهد الذي بذل في اصلاح الجهاز , خصوصا حين تم اقصاء نحو 670 ضابطا كبيرا باحالتهم الي التقاعد ' منهم 505 برتبة لواء ' , وحين بذل الوزراء المتعاقبون جهودا متفاوتة للاصلاح , كما انني لا انكر ان جهدا مقدرا ومبادرات عدة ' عددها عشر تقريبا ' قدمتها جهات عدة شارك فيها بعض الضباط مع عناصر تمثل المجتمع المدني , الا ان الثابت حتي الآن ان ذلك لم يحدث تغييرا جوهريا في اداء جهاز الشرطة يبيض صفحته ويغسل خطاياه. الثابت ايضا ان كبار المسئولين عن الاذلال و التعذيب سواء قبل الثورة او بعدها. لم يعاقبوا علي ما اقترفوه من جرائم ' رغم انه لا مقارنة بين نطاق التعذيب قبل الثورة وبعدها , حيث كان قاعدة في الاولي واستثناء في الثانية ' . وفي 39 قضية رفعت بعد الثورة اتهم فيها ضباط الشرطة بقتل المتظاهرين تمت تبرئتهم في 36 قضية وهناك ثلاث قضايا اخري لاتزال منظورة امام المحاكم .
لقد اثبتت خبرة السنتين اللتين اعقبتا ثورة 25 يناير ان اصلاح جهاز الشرطة يتطلب حلولا اكثر جذرية وعمقا , وان الجهد الذي بذل في هذا الصدد ظل قاصرا عن تحقيق هدف الاصلاح المنشود. اذ ليس سهلا ولا ميسورا تغيير ثقافة وهوية جهاز يضم مليون ونصف المليون شخص. عاشوا لاكثر من ثلاثة عقود في ظل قانون الطوارئ يمارسون القمع و التزوير و العدوان علي كرامة الناس وانتهاك حرمة القانون .
من الامور التي يدعو اليها الباحث لحل عقد ورواسب جهاز الشرطة , اخضاعه لقيادة مدنية مع وضع اطار قانوني واضح لتحديد اختصاصات الاجهزة الامنية ' اختصاصات جهاز امن الدولة الامن الوطني غامضة. هذا القطاع دون غيره وهو الوحيد الذي لم يتم الكشف عن هيكله الداخلي علي موقع وزارة الداخلية ' .
في اسبانيا اخضعت الشرطة لقيادة مدنية بصورة تدريجية بعد وفاة الديكتاتور الجنرال فرانكو في عام 1975. وفي التسعينيات لجات جنوب افريقيا الي وضع برنامج شامل للدفاع الوطني وانشاء هوية مهنية جديدة لافراد المخابرات مع وضع ميثاق شرف اكد علي الالتزام بقيم الديمقراطية واحترام حقوق الانسان و التمسك بالحياد السياسي. وفي آخر التسعينيات الغت اندونيسيا عسكرة الشرطة واخضعت الاجهزة الامنية للرقابة الشعبية من خلال ثلاث لجان برلمانية , وفي عام 2004 الغت جورجيا عسكرة الشرطة , وتولي سياسيون مدنيون مناصب وزير الداخلية ونائبه ورئيس جهاز الاستخبارات. ووقعت وزارة الداخلية مذكرة تفاهم مع منظمات حقوق الانسان لمراقبة مراكز الاحتجاز و السجون __ الخ .
بشكل عام فان اجهزة الامن ذات المهنية العالية في الديمقراطيات الراسخة يتم مراقبتها من خلال جهات مدنية خارجية. كما هو الحال مع لجنة الاستخبارات و الامن في البرلمان البريطاني او لجنة مراقبة الاستخبارات الامنية في البرلمان الكندي. وعادة ما تمتلك تلك اللجان سلطة الاطلاع علي المعلومات المتعلقة بانشطة اجهزة الاستخبارات وتقديم تقارير بشانها الي الحكومة او البرلمان .
نبه الباحث الي ان اصلاح القطاع الامني تعد عملية سياسية من الدرجة الاولي. وهذا البعد السياسي يمكن ان ينجح او يفشل المشروع السياسي برمته. حتي باتت سيطرة المؤسسات المدنية الممثلة للارادة الشعبية علي القطاع الامني المسلح تمثل نقطة الفصل الحقيقية بين الانظمة الديمقراطية ونظيرتها الاستبدادية .
من التوصيات التي انتهت اليها دراسة الدكتور عمر عاشور الاستاذ بجامعة اكستر البريطانية و الباحث بمركز بروكنجز الدوحة ما يلي : تشكيل لجنة رئاسية تختص باصلاح القطاع الامني وضع آليات رقابة فعالة لقطاع الامن ضمان تدريب اعضاء البرلمان علي رقابة المؤسسات الامنية تطهير وزارة الداخلية ومكتب النائب العام تغيير معايير الترقية في وزارة الداخلية اجراء مراجعة شاملة لنظم ومناهج تدريب اكاديمية الشرطة اعادة هيكلة وزارة الداخلية وتقليل عدد موظفيها صياغة قانون جديد للشرطة تدريب قوات الامن المركزي علي اساليب مكافحة الشغب غير القاتلة .
بطبيعة الحال فليس هذا آخر كلام في الموضوع , لكنه اجتهاد يقبل التعديل و المناقشة. و الاجتهادات مهمة لا ريب لكن الاهم منها هو الرغبة في الاصلاح و القدرة علي انجازه. اذ بغير الرغبة و القدرة يصبح الاجتهاد نوعا من الثرثرة و اللغو لا يقدم و لا يؤخر .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق