طوال الاشهر التي سبقت حادث الاغتيال ظل الموقف الاستراتيجي الذي تبنته قيادة حركة النهضة يتمثل في الحرص علي وحدة القوي الوطنية وتجنب الانقسام في البلد. وكان ذلك ما دفع الشيخ راشد الغنوشي رئيس الحركة الي التخلي عن فكرة النص علي مرجعية الشريعة في دستور تونس الجديد , و الاكتفاء بما هو مستقر في الدستور منذ الاستقلال بالنص علي ان تونس بلد عربي دينه الاسلام. الا ان عمليات التحريض السياسي المقترن بالتعبئة الاعلامية المضادة كان لها دورها في تسميم الاجواء , وكان حادث الاغتيال فرصة لتصعيد الاشتباك من جانب المعارضة. وهو ما دفع رئيس الوزراء الي الاعلان , دون الرجوع الي حزبه , عن رغبته في حل الحكومة المنتخبة , وتشكيل حكومة جديدة غير سياسية ' من التكنوقراط ' . وكانت وجهة نظره في ذلك ان الغيوم تلبدت في تونس بسبب الخلافات و التجاذبات قد ملات الفضاء التونسي. اضافة الي ذلك , فان بعض الفئات عبرت عن سخطها علي الحكومة سواء لانها لم تحل مشاكلها لسبب او آخر , او لان جماهيرها رفعت سقف توقعاتها باعلي من قدرات الحكومة.
ايا كان السبب فان السيد حمادي الجبالي سعيا منه الي تهدئة الاجواء السياسية وارضاء للفئات الغاضبة اعلن موقفه وراهن علي تغيير الحكومة , باعتبار تلك الخطوة احد الحلول التي تسمح له بتجاوز الموقف المعقد الذي آلت اليه الامور. وفي الوقت ذاته اعلن عن تشكيل لجنة حكماء من 16 شخصية عامة للتشاور معها في حل الازمة التي تمر بها تونس. الاعلان رحبت به قوي المعارضة وعارضه آخرون , لكن المعارضة الاهم جاءت من داخل حركة النهضة ذاتها التي ينتمي الرجل اليها , اذ اعتبرت ان الحكومة الحالية جاءت بها الانتخابات وتمثل الشرعية , في حين ان حلها و الاتيان بحكومة تكنوقراط مختارة يمثل انقلابا علي الشرعية , وازاء اصرار الجبالي علي موقفه , ورفض حركة النهضة لمقترحه , فان الرجل ذهب الي رئيس الجمهورية وقدم له استقالته من منصبه. ولان ذلك تم خلال الثماني و الاربعين ساعة الاخيرة , فليس معلوما بعد ما هي الخطوة التالية , وهل سيكلف الرجل باعادة تشكيل الحكومة بعد التوصل الي حل وسط معه , ام ان حركة النهضة صاحبة الاغلبية سترشح قياديا آخر من اعضائها ليحل مكانه.
ارجو ان تكون قد لاحظت الرسائل التي اشرت اليها في البداية. من ترويكا الحكم , الي المرونة في كتابة الدستور لتجنب الانقسام بين القوي الوطنية , الي مسارعة رئيس الوزراء الي تغيير حكومة السياسيين واقتراح حكومة من التكنوقراط , الي دعوته لجنة من حكماء البلد وخبرائه للبحث عن مخرج من الازمة , الي تقديمه مصلحة الوطن علي مصلحة الجماعة , انتهاء باستقالته من منصبه حين لم يقبل اقتراحه .
لقد استعدت هذه القصة بتفاصيلها التي لها شبيهها في مصر , وانا افكر في وضع حكومة الدكتور هشام قنديل التي اصبح ضعفها وسوء الاوضاع في ظل استمرارها محل اجماع وطني. فضلا عن ان الرجل المشهود له بالاخلاص و الخلق الرفيع كان قد حصر رهانه الاساسي علي قرض صندوق النقد الدولي وما سوف يوفره من غطاء مالي من جهات اخري يقدر بنحو 14 مليار دولار , الا ان ذلك الامل تبدد في الوقت الراهن , الامر الذي اوقعه في حيرة حيث لم يجد ما يراهن عليه. ومع ذلك فهو لايزال باقيا في منصبه , في حين انه لو اقتدي بالسيد حمادي الجبالي بعدما فشل رهانه , فان ذلك سيكون اشرف له واكرم , ذلك انه سيخرج من الحكومة محتفظا بقامته . بدلا من خروجه مكسور الجناح ومستبعدا من حكومة ما بعد الانتخابات القادمة .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق