فما يحدث في مصر الآن هو فضيحة بكل المقاييس ستظل تذكرها الاجيال القادمة لسنوات طويلة بكل اشمئزاز واحتقار , فبعد ثورة عظيمة قام بها الشعب المصري بكل فئاته واطيافه وسال فيها الدم الطاهر من اجل اقامة دولة الحق و القانون وانهاء احتكار السلطة وتكريس الفساد , لا يستحي المهمشون سياسيا و العاجزون فكريا و المشوهون نفسيا من الدعوة لاستيلاء الجيش علي السلطة مرة اخري.
وهذه دعوة صريحة لعودة الحكم الديكتاتوري البغيض و العصف بارادة الشعب المصري واختياراته , كما انها دعوة لبث الروح في اوصال الدولة البوليسية التي يعمل الجميع جهد انفسهم من اجل تفكيك اوصالها وتمزيق كيانها.
فعودة الجيش للحكم تعني الغاء اول انتخابات حرة نزيهة في تاريخ الشعب المصري منذ آلاف السنين لاختيار حاكمه , كما انها بالتبعية تعني فتح ابواب المعتقلات و السجون امام مئات الآلاف من المحتجين الذين سيخرجون في الشوارع و الميادين رافضين ذلك , وليسوا بالضرورة ان يكونوا من التيار الاسلامي فقط , وبالتبعية فانها تعني آلاف القتلي و الضحايا وانزلاق الجيش المصري في مستنقع قذر استطاع ان ينجو منه بوفائه بوعده وتسليمه السلطة للمدنيين.
ناهيك عما سيترتب علي ذلك من عزلة دولية متوقعة بحق مصر , فالفاشلون لدينا لا يستطيعون ادراك ان المجتمع الدولي لم يعد لديه ادني استعداد لقبول فكرة الانقلابات العسكرية , وانها اصبحت من مخلفات الماضي , حيث ان الاستراتيجية التي تعتمدها الادارة الامريكية عقب ثورات الربيع العربي تعتبر اكثر ذكاء وتقدما من تصرفات كثيرين عندنا و الذين يصرون علي التفكير داخل الصندوق لانهم لا يعلمون اي شيء خارجه.
فالادارة الامريكية اعتمدت مبدا ' اذا اردت هزيمة الاسد فدعه ينزل الحلبة ' , فقد اثبتت سنوات القهر و الظلم الطويلة التي تعرض لها الاسلاميون انها رسمت لهم صورة اشبه بالاسطورة في وعي الجماهير , وانهم صاروا نموذجا تتمناه الشعوب وتتوق اليه , وان هذه الجماهير باتت تعتقد ان الاسلاميين وحدهم يمتلكون المفتاح السحري لحل جميع المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية و الصحية… الخ , كما ان عقود الاقصاء و الابعاد اكسبت القوي الاسلامية حالة من ' الطُهر ' لدي الشعب المصري وانه بات من المستحيل بعد ثورات الربيع العربي ان يتم تجاوزهم في الترتيبات البعدية , ولكنهم في الوقت ذاته يمثلون اشكالية امام السياسة الامريكية في المنطقة , ومن هنا فان الادارة الامريكية تراهن الآن علي افشالهم سياسيا وتعويقهم اقتصاديا بحيث يكون الابعاد و الاقصاء بيد الجماهير وعبر الصناديق وليس عن طريق الحكام وبواسطة السوط و الهراوة , مما سيؤدي بالضرورة الي نزع هالة التقديس التي احاطت بهم لعقود ليست بالقليلة.
هذا باختصار هو طبيعة السياسة الامريكية تجاه الاسلاميين في اعقاب الربيع العربي , خاصة ان الادارة الامريكية لم تعد تعول كثيرا علي الرموز و النخب المصرية او علي قدرتهم في حشد الشارع المصري بل اسقطتهم تقريبا من حساباتهم , فقد روي لي احد الاصدقاء المتخصصين في الدراسات الاستراتيجية و المستقبلية انه التقي علي هامش احد المؤتمرات الدولية بالهند مؤخرا بباحثين من مؤسسة ' راند ' الامريكية , وهي مؤسسة معروف انها معنية باعداد البحوث و الدراسات السياسية و الاستراتيجية التي تساعد صانع القرار في البيت الابيض الامريكي ولها نفوذ مؤثر معلوم , فكان مما قاله باحثو راند انهم يعرفون ان معظم الساسة المصريين خلا الاسلاميين ليس لديهم اي نفوذ مؤثر في الشارع المصري , وعلي راسهم البرادعي وصباحي وعمرو موسي وغيرهم ممن ذكروهم بالاسم , لذا * و الكلام مازال لهم * فقد اسقطوهم تمامَا من حساباتهم ولم يعودوا يعولون عليهم ولا يثقون في قدرتهم في مواجهة التيار الاسلامي.
هذه الرؤية الامريكية قد تحتاج منا الي مزيد من البحث و الدراسة لاحقا لبيان ضرورة بناء استراتيجية مضادة لها تمكن من بناء نموذج للحكم الرشيد القادر علي التعامل مع آلام وهموم المواطن البسيط.
ولكني اردت الاشارة اليها للتاكيد علي عجز النخب السياسية المصرية عن ادراك طبيعة تفكير المجتمع الدولي تجاه الوضع في مصر بصفة خاصة , وفي دول الربيع العربي علي وجه العموم , وهو ما عوضوه بالقاء الكرة في ملعب الجيش بدعوته للاستيلاء علي الحكم !
و لم يبق سوي ان يصرخوا باعلي اصواتهم : ' انقلاب عسكري لله يا سادة ' !!
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق