ليس الامر مقصورا علي وزارة الاوقاف ولكنه وباء استشري في الجهاز الاداري ' قال لي رئيس تحرير احدي المجلات الحكومية ان في مؤسسته 65 نائبا لرئيس التحرير , بعضهم يقيمون في الاقاليم ولا يري وجوههم ' . هذا الوباء جزء من التشوهات التي تراكمت طوال سنوات الفساد و الفوضي , حتي تحولت الي عاهات يصعب الخلاص منها. وهي السنوات التي كان امن النظام وملاحقة المعارضين ومحاربة التطرف هي الشغل الشاغل لكل اجهزة الدولة.
معلومات وزارة البترول تقول مثلا ان في مصر ما بين 2700 و2800 محطة بنزين , الا ان منها 600 محطة علي الورق فقط ولا وجود لها في حقيقة الامر. وهذه المحطات الوهمية تصرف لها يوميا حصة من البنزين تتسرب مباشرة الي السوق السوداء. والي جانب محطات البنزين هناك فروع اخري للتوزيع تعرف باسم ' طلُمبة رصيف ' . وهذه الطلمبات يقدر عددها بحوالي 12 الف وحدة , منها 800 طلمبة علي الورق ولا وجود لها علي الارض , واصحابها يتلقون حصتهم اليومية بالاسعار المدعمة , ثم يوجهونها بدورهم الي السوق السوداء.
بسبب هذه الفوضي اتسع نطاق تجارة السوق السوداء في البنزين و السولار. وخلال الاسبوع الماضي الذي شهدت فيه بعض المدن اختناقات عدة في توزيع البنزين ثم ضبط 50 الف طن كانت معدة للتهريب الي السوق السوداء , وللعلم فان مصر تستهلك يوميا 36 الف طن , ينتج منها محليا 22 الف طن و الباقي ' 14 الف طن ' يتم استيرادها من الخارج. وعلي مكتب رئيس الجمهورية بيان يشير الي انه منذ تولي سلطته في اول شهر يوليو من العام الماضي وحتي الآن ضبطت السلطات المختصة ما يعادل 400 الف طن من المحروقات , تسرقها عصابات منتشرة في طول البلاد وعرضها.
الحاصل في وزارة البترول له نظيره في بقية الوزارات , الامر الذي ينبهنا الي ان الكبار الذين تسلطوا علي مقدرات مصر طوال ثلاثين سنة علي الاقل لم ينهبوا ثروة البلد ومواردها فقط , وانما شكلوا نموذجا للنهب و الاستباحة احتذاه آخرون في مختلف الوظائف الدنيا. وهو ما يصور مدي جسامة مهمة تطهير الجهاز الحكومي من الخبائث التي علقت به طوال تلك الفترة. في هذا الصدد يلاحظ ان ثمة حديثا متواترا حول تطهير الداخلية وتطهير القضاء او غير ذلك , الا ان تطهير الجهاز الحكومي الذي يضم نحو 6 ملايين موظف ظل ملفا مؤجلا ومسكوتا عليه. في هذا الصدد ينبغي الا نتجاهل الدور الذي قام به الدكتور احمد درويش وزير التنمية الادارية الاسبق الذي يحسب له انه طرق ذلك الباب , لكنه لم يمكن من استكمال مهمته , لان الاجهزة صاحبة المصلحة انقضت علي محاولته ونجحت في ايقافها وافشالها. وكانت فكرته في ذلك بسيطة للغاية وتتلخص في ان مال الحكومة لا ينبغي ان يصرف بواسطة التوقيعات او التوكيلات التي يسهل التلاعب فيها , ولكنه يصرف فقط بناء علي بطاقة الرقم القومي. ذلك انها وحدها الكفيلة بتحديد ما هو حقيقي وما هو وهمي في وظائف الحكومة. وبواسطتها يمكن التعرف علي المبالغ التي يعرفها كل فرد و الوظائف التي يشغلها لان بعض العاملين يعينون في اكثر من جهة حكومية في وقت واحد. ليس ذلك فحسب , ولكن اشتراط ابراز بطاقة الرقم القومي يصبح ضروريا ايضا اذا ما كنا جادين في تطبيق نظام الحد الاقصي و الادني للاجور , اذ بغيرها سيمكن التلاعب بذلك النظام وتفريغه من مضمونه.
لست اشك في ان الخبراء لهم اجتهادات متعددة في الموضوع , وبالتالي فهم اصحاب الكلمة الاخيرة في صدده , ويظل المهم في نهاية المطاف ان يوقف ذلك الاهدار و العبث الذي يضيع الموارد و الحقوق , من خلال تفكير حازم ومسئول , ومن المسئولية ان يعاد النظر في هيكل الاجور في نفس الوقت لتوفير بديل كريم للذين يتحايلون ويسرقون لانهم مضطرون.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق