لما طال سكوت صاحبنا شرحت له مضمون البيان الذي لم يقراه وكيف انه حث ماموري الضبط القضائي علي القيام بما عليهم ازاء مثيري الشغب و الذين يمارسون التخريب , كما انه نبه المواطنين الي ممارسة حقهم الذي كفله لهم قانون الاجراءات الجنائية اذا ما وجدوا شخصا متلبسا بارتكاب جريمة , ودعاهم الي تسليمه الي الشرطة فيما تطلق عليه الصياغة القانونية مصطلح ' الاستيقاف ' . وحين انهيت كلامي سمعت الصحفي الشاب وهو يقول بصوت خفيض كانه غير مصدق لما قلت : هل تقصد انه لا يوجد قرار ولا توجد ضبطية قضائية؟ وعندما رددت بالايجاب اعتذر عن ازعاجي ثم وضع سماعة الهاتف في هدوء.
لم تكن هذه هي المرة الاولي التي اتلقي فيها اتصالا من صحفي شاب لم يقرا موضوعه , ولكنه اعتمد علي تلقين من رئيسه. كما انها لم تكن المرة الاولي التي اتلقي فيها ذلك النوع من الاسئلة المغلوطة و التحريضية , ذلك ان السؤال انطلق من صحة الادعاء بان هناك قرارا من شانه فتح الباب لتاسيس ميليشات اسلامية. وهي الصياغة التي تضع من يوجه اليه السؤال علي الارضية الغلط منذ اللحظة الاولي. ولم يكن ذلك كل شيء , لان ما اثار دهشتي ان ما تحدث به صاحبنا في اتصاله الهاتفي معي في السابعة مساء الاثنين , وجدته الموضوع الاساسي للحوارات التليفزيونية التي جرت بعد ذلك بساعتين في اغلب القنوات , اذ دارت تلك الحوارات حول النقطتين اللتين اثارهما سؤال الصحفي الشاب , صدور قرار منح سلطة الضبطية القضائية للمواطنين , ثم الميليشيات الاسلامية التي ستتشكل بناء عليه , ولم تتوقف دهشتي حين طالعت اغلب الصحف ' المستقلة ' التي صدرت في اليوم التالي ' صباح امس الثلاثاء 12/3 ' , حتي بدا وكان لوثة اصابت الجميع. اذ حشدت الصحف اعدادا من القانونيين و الحقوقيين و المعارضين السياسيين واقحمت احدي الصحف عددا من خبراء علم النفس و الاجتماع , واشترك الجميع في الصياح و النواح وهم ينددون بحكاية الضبطية القضائية ويروعون الناس من المصير الاسود الذي سيحل بالبلاد في ظل اجتياح الميليشيات الاسلامية المرتقبة.
حين وضعت تلك المشاهد جنبا الي جنب , تداعي امامي سيل من الاسئلة منها ما يلي : هل يمكن ان تكون تلك مجرد مصادفة , ان يشوه بيان مكتب النائب العام ويعاد تركيبه بذات المواصفات بسرعة مدهشة لاثارة اكبر قدر من السخط و النفور؟ وهل يمكن ان يكون الاتفاق منعقدا بتلك الدرجة بين تعليمات رؤساء التحرير وبين بعض المثقفين و الخبراء وبين مقدمي البرامج التليفزيونية وضيوفها؟ واذا كان اتفاق هؤلاء علي قلب الصورة وتسميم الاجواء قد انكشف بسرعة هذه المرة , فما هي يا تري المرات الاخري التي تم فيها التواطؤ المماثل ولم ينكشف امره في حينه؟
اننا اذا طالعنا الصورة من منظور اوسع سنلاحظ ان الابواق التي شاركت في عملية التسميم الاخيرة هي ذاتها التي احتفت باضراب بعض رجال الشرطة عن اعمالهم , وهي التي شجعت جماعات الالتراس و البلاك بلوك واعتبرت عمليات التخريب وحصار البورصة و البنك المركزي و الهجوم علي مقر الاتحادية اعمالا ثورية , وهي ذاتها التي ما برحت تستفز الجيش وتستدعيه للانقلاب علي السلطة , وقد قرانا لبعضهم امس توقعات وردية لما يمكن ان يحدث في مصر بعد وقوع ذلك الانقلاب السعيد. وهي خلفية تفسر لنا لماذا فزعت تلك المنابر من احتمال استنفار المجتمع ودعوة ناسه الي التخلي عن السلبية وتسليم المتلبسين بارتكاب الجرائم الي ماموري الضبط القضائي , كما يحدث في اي مجتمع حي ومتحضر.
لا تسالني من يكون هؤلاء , لان الاسماء معلنة و الوجوه مرئية و الاصوات تملا الافق وتصم الآذان , ولا تسالني ايضا لحساب من يعملون , لانني لا اشك في انك تعرف ما الذي يمكن ان يحدث في البلد اذا تحقق لهم ولمن هم وراءهم ما يريدون.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق