' 1 '
صحيح ان الحدث استغرق يوما واحدا او نصف يوم ان شئت الدقة , الا انه لا يزال محفورا في الذاكرة المصرية , فقبله يوم واحد كانت موقعة الاسماعيلية التي اثبتت الشرطة خلالها بسالة نادرة في مقاومة سلطة الاحتلال البريطاني , وبعده بستة اشهر قامت ثورة يوليو وسقطت الملكية في مصر.
يومذاك ' السبت 26 يناير لعام 1952 ' اشتعلت النار فجاة عند الظهر في كازينو اوبرا , ثم في سينما ريفولي ثم تلاحقت الحرائق في قلب القاهرة. وفيما بين الثانية عشرة ظهرا و الحادية عشرة مساء كانت النار قد التهمت 700 هدف . وقال بيان النائب العام الذي نشرته الصحف في 8 مارس فان النيران المجنونة اتت علي ما يلي : 300 محل تجاري بينها اكبر واشهر المحلات في البلد 30 فرعا لشركات كبري 117 مكتبا وشقة سكنية 13 فندقا كبيرا 40 دارا للسينما 92 محلا للخمور 16 ناديا اجتماعيا. وهو ما ادي الي مقتل 36 شخصا ' 22 ماتوا محترقين ' واصابة 552 بجروح بينهم 30 باعيرة نارية. كما ادي الي تشريد آلاف العمال , قدر عددهم مع من يعولونهم بنحو 20 الف نسمة. ' التفاصيل وقصة الحدث كاملة مذكورة في كتاب الاستاذ جمال الشرقاوي , الذي صدر في عام 1975 تحت عنوان : حريق القاهرة قرار اتهام جديد ' .
فجعت القاهرة وخيم عليها الذهول جراء ما حدث. وظلت القصة لنحو ربع قرن محاطة بالغموض. الذي حين تكشف تبين ان الفاعل الحقيقي فيه هو المخابرات البريطانية التي استهدفت الانتقام من حكومة الوفد واسقاطها. وهو ما اكدته دراسة الاستاذ جمال الشرقاوي التي صدرت في كاتب لاحق بعنوان ' حريق القاهرة في الوثائق البريطانية ' .
' 2 '
' حرق مصر ' كان العنوان الرئيسي لعدد جريدة ' الشروق ' الصادر يوم الاحد الماضي ' 10/3 ' . ورغم انه لم يخل من مبالغة نسبية لان الحرائق التي وقعت شهدتها محافظات لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة , الا انه كان معبرا عن احد الفروق بين ما حدث قبل ستين عاما حين اقتصر الحريق علي القاهرة فقط وبين ما هو حاصل الآن. علما بان عدد المواقع التي استهدفت في حريق القاهرة اكبر بكثيرمن الحرائق التي وقعت هذه الايام.
قبل ان استطرد في ذكر الاختلافات بين المشهدين وهي كثيرة , استاذن في ان امر بسرعة علي اوجه التشابه بينهما , التي الخصها فيما يلي : وقوع الحدثين وسط اجواء مشاعر وطنية جياشة ' مقاومة الانجليز و الثورة في مصر ' لجوء المتظاهرين الي تخريب الاماكن العامة اشاعة الخوف و الفزع في المجتمع وجود عقل مدبر وغامض وراء الحرائق ' دور المخابرات البريطانية في حريق القاهرة ظل محل شك ولم يثبت الا في وقت لاحق استهدف اسقاط السلطة القائمة ممثلة في حزب الوفد آنذاك و الاخوان في الوقت الراهن صمت راس الدولة واكتفائه بالفرجة علي ما يجري , فالملك فاروق كان يحتفل يوم حريق القاهرة , بميلاد ولي العهد , و الرئيس محمد مرسي لم يصدر عنه شيء يذكر الدور السلبي لاجهزة التحقيق و النيابة , الذي اسهم في طمس الحقائق وليس كشفها استخدام العاطلين و البلطجية في اشعال الحرائق عجز الشرطة عن احتواء الموقف و السيطرة عليه شلل القوي السياسية وعجزها عن التعامل الايجابي مع المشهد.
في رصد الاختلاف بين الحريقين نلاحظ ما يلي : الحدث كان محصورا في القاهرة قبل ستين عاما , لكنه في الوقت الراهن تجاوز العامصة وترددت اصداؤه في بعض المحافظات الاخري كان اشعال الحرائق هو الاسلوب الوحيد لاشاعة الفوضي في القاهرة وقتذاك. لكن الاساليب تعددت الآن بحيث شملت اعلان الاضراب وحصار البورصة و البنك المركزي وتعطيل شبكة المترو -- الخ في حريق القاهرة استدعي الجيش الذي نزل متاخرا , وفي حالتنا ظل الجيش بعيدا عن المشهد وقتذاك كان الاتفاق منعقدا علي ان الاحتلال البريطاني هو الخصم اما في الوقت الحالي فالاخوان هم المستهدفون في السابق كان الاصطفاف الوطني محسوما في مواجهة الانجليز لكن الصف الوطني منقسم الآن في مصر الذين قاموا بالدور الرئيسي في حريق القاهرة كانوا مدربين جيدا وكانت خطة تحركهم واضحة , اما الذين يشيعون الفوضي في مصر الآن فهم اقرب الي الهواة الذين اندس بينهم بعض اصحاب السوابق حريق القاهرة لم تكن له مقدمات واستغرق نصف يوم , اما الحاصل في مصر الآن فقد بدا بخروج الثوار الذين ارادوا التعبير عن احتجاجهم وغضبهم , وكانت تلك خلفية وارضية استثمرها آخرون لاشاعة الفوضي , الي جانب ان تحركاتهم استمرت اياما عدة واسابيع في حين يكمن وراء حريق القاهرة حدثان مهمان هما الغاء حكومة الوفد لمعاهدة 1936 مع بريطانيا في عام 1951 وفتح الباب لمقاومة الوجود البريطاني في منطقة القناة , وحصار الانجليز محافظة الاسماعيلية في عام 1952 لمنع الشرطة من دعم الفدائيين , لكنها رفضت تسليم سلاحها واشتبكت مع الانجليز يوم 25 يناير مما ادي الي استشهاد اعداد من الضباط و الجنوب ' لذلك تم تخليد اليوم واعتبر عيدا للشرطة ' وقد وقع حريق القاهرة في اليوم التالي مباشرة. اما الحاصل الآن في مصر فقد تداخلت في خلفيته عوامل عدة , في مقدمتها تداعيات الحكم باعدام 21 متهما في قضية مذبحة استاد بورسعيد التي اعقبت مباراة كرة القدم بين الناديين الاهلي و المصري لكن هناك فرقا آخر تمثل في موقف حكومة النحاس باشا وحكومة الدكتور هشام قنديل من الازمة التي حدثت , وتلك مسالة تحتاج الي وقفة خاصة.
' 3 '
اغلب المؤرخين المصريين لم يفترضوا البراءة في موقف الملك فاروق , الذي كان قد احتجز قادة الجيش وكبار ضباطه في قصره حيث دعاهم الي الغداء بمناسبة مولد ولي العهد , الا انه تصرف بسرعة واقال حكومة النحاس باشا التي كانت قد اعلنت الاحكام العرفية وحظر التجول في القاهرة , ذلك انه من الناحية السياسية ما كان له ان يمرر حادث الحريق دون ان يتخذ خطوة حاسمة يبدو من خلالها كما لو كان يسعي لاحتواء الحدث من خلال حكومة اخري , فما كان منه الا ان اقال النحاس باشا وعين علي راس الحكومة علي باشا ماهر.
لا يختلف اولئك المؤرخون حول عدم ارتياح الملك لتصرفات حكومة النحاس باشا التي الغت معاهدة 1936 علي غير رغبة منه , الا ان اقالة رئيس الحكومة بدت تصرفا مناسبا من الناحية السياسية. حيث ما كان ينبغي لراس الدولة ان يواجه موقفا يعصف باستقرار البلاد ثم يقف منه متفرجا , ويتصرف في تسيير الامور كان شيئا لم يكن. ورغم ان احدا لم يكن يشك في وطنية حكومة النحاس باشا التي الغت المعاهدة وفتحت الابواب للمقاومة المسلحة ضد القوات البريطانية في منطقة القناة , الا ان اقالة الحكومة بدت مفهومة من الناحية السياسية. ولماذا نذهب بعيدا عن ذلك؟ ان ما حدث مؤخرا في تونس يؤيد ما ادعيه. ذلك انه بعد اغتيال الناشط اليساري شكري بلعيد وخروج التظاهرات جراء ذلك , الامر الذي اشاع التوتر في البلاد , فان رئيس الحكومة لم يكن بوسعه ان يعتصم بالصمت ويتجاهل ما حدث , فبادر الي اقتراح اعادة تشكيلها علي نحو وفاقي جديد , وحين لم يقبل اقتراحه فانه استقال من منصبه , وافسح الطريق لغيره لكي يتحمل المسئولية.
النقطة التي تهمنا في الموضوع ان البلد حين يواجه مازقا بمثل تلك الحدَّة فان قيادته ينبغي ان تقدم للمجتمع اجراء محسوسا يقنع الراي العام بانها ليست متفرجة علي ما يجري , ولكن لديها مبادرات جادة للتعامل معه سواء بسياسات جديدة او وجوه جديدة , وحين لا يحدث لا هذا ولا ذاك فان ذلك يضعف من تقدير المجتمع لتلك القيادة , الامر الذي يمثل سحبا من رصيد الثقة فيها. وهذا المنطوق ينطبق علي مصر في وضعها الراهن , خصوصا بعدما تراجع الحماس لاستقبال الدعوة الي الحوار الوطني لاسباب يطول شرحها , ومن ثم تعين علي الادارة السياسية ان تطرح مبادرة اخري ترمم الجسور وتحقق الوفاق المنشود. ورغم انه يتعذر اعفاء قوي المعارضة من المسئولية في هذه الحالة , الا ان مسئولية الجهة صاحبة القرار الممسكة بالسلطة تظل اكبر و الصمت في هذه الحالة , لا يعد من قبيل الحكمة او حسن الادارة , لكنه يصبح دليلا يشهد بعكس ذلك.
' 4 '
ان كفاءة القيادة تقاس بمقدار استجابتها لمسئولية التحدي التاريخي الذي تواجهه. و الزعماء الحقيقيون يحتلون مكانتهم في التاريخ تبعا لقدرتهم علي ارتفاعهم فوق التحدي وانتصارهم عليه. و الفرق بين الزعيم و الرئيس يتمثل في ان الاول يمارس ذلك الاستعلاء , وينجح فيه في حين ان الرئيس هو من يكون فقط في مستوي التحدي. فالاول يقود و الثاني يدبر فقط. وقد قرات ان رجل نهضة سنغافورة واحد حكماء العصر لي كوان يو ' 89 سنة ' قال ان ابطاله ثلاثة , هم شارل ديجول وونستون تشرشل وينج كيساوبنج. السبب في نظره ان الثلاثة كانوا اقوياء في لحظات الضعف التي مرت بها بلدانهم. فديجول انقذ فرنسا من خيانة المارشال فيليب بيتان وتعامله مع الاحتلال النازي. وتشرشل قاد بريطانيا الي النصر وهي تحت صواريخ هتلر. اما بنج فانه احدث الانقلاب الكبير في الصين بحيث نقلها من قاع الفقر و الجدب الي المراكز الاولي في العالم.
ان الرئيس محمد مرسي الذي يدخل الآن شهره التاسع في منصبه هو الذي سوف يحدد مكانته في تاريخ مصر , وما اذا كان سيصبح زعيما , ام سيبقي رئيسا , ام انه سيصنف نفسه في مربع ثالث لا هو الاول او الثاني؟!
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق