حين يتحول التلفزيون الى مرجع الشباب الأساسي فهمي هويدي


زارني عدد من طلاب الاعلام لاجراء حوار يفترض ان يكون جزءا من مشروع تخرجهم في نهاية العام. وقد حمل كل واحد منهم بضعة اسئلة حول الاوضاع الراهنة في مصر. وكان من بين تلك الاسئلة ما يلي : لماذا لا يعود المجلس العسكري لحكم مصر؟ وهل صحيح ان الرئيس مرسي فقد شرعيته؟ وهل صحيح ان حركة حماس تتولي حمايته؟ ما العمل في جهاز الشرطة الذي لا يزال يصر علي تعذيب المصريين وقتلهم؟ هل يمكن ان تباع قناة السويس للمستثمرين؟ وهل توطين الفلسطينيين في سيناء ممكن؟ لماذا لم تحاسب حركة حماس علي اشتراك عناصرها في قنص الثوار؟ الي اي مدي تعد ايران تهديدا وخطرا علي مصر؟ الا يعد منح حق الضبطية القضائية للمواطنين العاديين مقدمة لحدوث حرب اهلية في مصر؟ هل يمكن ان يحكم البلد اعضاء جماعة الامر بالمعروف و النهي عن المنكر؟ هل تؤيد حق النوبيين في الانفصال وحق اهالي بورسعيد في الاستقلال عن مصر؟ -- . الخ. بعض تلك الاسئلة اجبت عنها بما تيسر , و البعض الآخر قلت انه لا يعقل طرحها من الاساس , لانها مبنية علي شائعات واخبار غير صحيحة. لكن الخلاصة التي خرجت بها من اللقاء ان معلومات هؤلاء الشباب مستقاة من برامج التليفزيون وعناوين الصحف , بمعني انهم ينتمون الي جيل عصر المشاهدة , الذي تتشكل لديه الانطباعات وتتحدد الرؤي بناء علي ما يشاهده المرء ويتلقاه من الخارج بغير جهد منه في التحصيل او القراءة الخاصة. وحتي اكون اكثر دقة فان ذلك كان حكمي علي الذين لقيتهم من الشباب ولا استبعد ان تكون هناك نماذج اخري افضل حالا.


في تحليلي للموضوع خلصت الي ما يلي : انه في عهد الاستبداد التي خلت هجر المصريون السياسة واستقالوا منها. فلا الاحزاب كانت تشجع علي الانخراط فيها , ولا النقابات كانت بعيدة عن بطش السلطة وتحكمها , ولا الانتخابات النيابية او المحلية او حتي الطلابية كان يمكن ان تمر دون ضغوط الاجهزة الامنية وتدخلاتها. وحين ادرك الناس ان باب السياسة مغلق في وجوه الاغلبية ومفتوح علي مصراعيه لاعوان النظام السابق , فانهم اداروا ظهورهم لها وانصرف كل واحد الي حال سبيله وقد اختزن مشاعره واحتفظ لنفسه بآرائه في محيطه.

حين قامت ثورة 25 يناير وكان خروج الملايين الحاشدة هو السبب الرئيسي في اسقاط نظام مبارك بكل قوته وجبروته فان ذلك احدث انقلابا شاملا في المشهد , كان من ابرز نتائجه ان الذين استقالوا من السياسة في السابق عادوا اليها بقوة وصلت الي حد الاندفاع , وكانت تلك العودة ايذانا بالجهر بكل ما كان مكتوما ومخزونا من مشاعر وانطباعات. ولان حرية التعبير وغيرها من الحريات العامة غدت بلا سقف في مصر , فقد اصبح بمقدور كل احد ان يبوح بما عنده , باللغة التي يختارها وتمكِّنه من التعبير عن نفسه وايصال رسالته الي الآخرين , وفي ظل الانفلات الامني وغياب الشرطة فلم يعد احد يعمل حسابا لاحد , وفي حالات كثيرة فان الحدود تلاشت بين المباح وغير المباح و المعقول و اللا معقول.

ما يهمنا في مشهد العودة الي السياسة ان الجميع دخلوا الي الحلبة فجاة باختلاف اعمارهم وفئاتهم. وتحقق ذلك الدخول في ظروف ثورة الاتصال التي مكنت كل صاحب راي ان يرفع صوته وان يوصله الي الآخرين في ثوان معدودة , حتي صار لكل مواطن جريدته التي يتولي تحريرها بنفسه ويبث فيها آراءه في كل ما يعن له. ولان جيل الشباب هم الاقرب الي ادوات تلك الثورة و الاقدر علي استيعابها و التعامل معها , فان ايقاع العصر وقصر الوقت حرمهم من فرصة التحصيل واحداث التراكم المعرفي المفترض. بالتالي فان مرجعيتهم الثقافية باتت محصورة فيما يشاهدونه من صور وما يتابعونه من حوارات تليفزيونية وما يطالعونه من عناوين شريط الاخبار. وبعدما جذبتهم السياسة عقب الثورة , فان الجميع صار لهم راي فيها , حتي نافسوا في ذلك تحول الجميع الي خبراء ونقاد لمباريات كرة القدم في العصور السابقة.

في ظل ضعف الاحزاب وحداثة تكوينها هيمنت الانطباعات الاعلامية و التليفزيونية علي عقول اعداد غفيرة من المشاركين الجدد في لعبة السياسة وازاء التحيزات الراهنة في الاداء التليفزيوني وتحول نجوم التليفزيون من مقدمي برامج الي موجهين سياسيين ومحرضين فان ذلك اسهم في نقل شرائح من اولئك الشبان من طور الجهل بالسياسة واعتزالها الي طور فساد الادراك السياسي وتشوهه. ومن اللاذاكرة الي الذاكرة العليلة. حتي صارت شريحة من الشباب مخيرة بين الجهل المطبق و المعرفة الفاسدة , والي ان تدور العجلة الديمقراطية سيظل الاداء الاعلامي المحايد و النزيه وحده الذي يستطيع ان يصوب الادراك ويوفر للجميع المعرفة الصحيحة التي تقدم مصلحة الوطن علي المصالح و الحسابات الخاصة , واذا سالتني هل هذا ممكن في اجواء مصر الراهنة , فردي بالنفي للاسف لان حدة الاستقطاب اخرجت الاعلام و الاداء التليفزيوني خاصة من سوق الانصاف و النزاهة.

ليست هناك تعليقات :