اذن كانت جمعة الاستقالة النهائية من الثورة , و الانسلاخ التام من الآدمية , وتشييع الانسانية الي مثواها الاخير __ جمعة الانفلات من البشرية و الغوص عميقا في قاع ' البهائمية ' كانت.
تذكر جيدا كيف اقشعرت جلود المصريين حين اقدم اهالي قرية لبنانية علي سحل وقتل شاب مصري وتعليق جثته علي قارعة الطريق , بعد اتهامه بارتكاب مذبحة اودت بحياة اربعة من اسرة لبنانية في ' كترمايا ' .
في ذلك الوقت انتفض المصريون غضبا علي هذه البشاعة الموغلة في الهمجية , غير ان المصريين بعد نحو ثلاثة اعوام استنسخوا تلك المجزرة وطبقوها بانفسهم علي انفسهم , في الريف وفي الحضر , معلنين التحول مع سبق الاصرار و الترصد الي حالة حيوانية , مع فارق كبير وهو ان البشاعة صارت اسلوب حياة , او بصياغة الاديب محمد المخزنجي في مقال نشرته ' الشروق ' وقتها ' انحطاط نفسي بالغ الاتضاع , وخطير الدلالة , ولا يمكن استيعابه الا في حضيض مصطلح شاع في علم النفس الجنائي , هو : البهيمة البشرية ' human beast ' .
وبعد مشاهدات ليلة الانحطاط الثوري في المقطم لن تجد تعبيرا اوقع من مصطلح ' البهيمة البشرية ' لوصف ما جري , لكن الكل قبل التوصيف ينبغي ان يشغلوا انفسهم وضمائرهم بسؤال اهم : من الذي ادخل ثورة الكرامة الانسانية الي خرائب البهيمة البشرية؟
لقد اشتغلت ماكينة اعلام الثورة المضادة طوال الشهور الماضية علي تدمير الوشائج بين جميع الاطراف التي شاركت في ابداع مشهد الثمانية عشر يوما الموزعة بين الربع الاخير من يناير و الثلث الاول من فبراير ٢٠١١ , وبمهارة و الحاح شديدين تم اعتماد مصطلح ' الخرفان ' الموغل في بذائته مرادفا للمنتسبين الي الاخوان وقوي الاسلام السياسي , وبالالحاح ذاته جرت عملية تجريدهم من مصريتهم واسقاط الوطنية و الثورية عنهم , ثم التحريض و التشجيع علي ذبحهم وسلخهم , حتي جاءت لحظة التنفيذ في اسوا ليالي مصر واكثرها سوادا علي الاطلاق.
وبالطبع يمكنك ان تنحو باللائمة علي الذين حولوا الثورة الي حرفة ' باليومية ' ودللوا البلطجة بان منحوها لقب ثورة , ووفروا الملاذات الثورية الآمنة لفلول وبقايا الثورة المضادة , وجعلوا المسافات تضيق حتي التلاشي بينهم كرموز ثورية كما اعتبرناهم يوما وبين جنرالات الانتقام من الثورة , بل انهم امعنوا في التضاؤل و الاتضاع اكثر حتي صاروا وكلاءهم داخل مصر , واظن ان تصريحات زعيم الثورة المضادة الهارب قبل ساعات من المذبحة التي تحدث فيها عن عودته الوشيكة الي مصر تستحق التفكير , لمن اراد ان يقرا تفاصيل المشهد جيدا.
لكن قبل توجيه اللوم الي ملوك الطوائف وامراء الحرائق و الخرائب , ينبغي ان يوجه اللوم الي الرئيس الساكن الساكت الذي يكتفي بمشاهدة السنة النار تعلو وتمسك بملابسه وتحرق وطنا دون ان يحرك ساكنا , او يطبق قانونا او دستورا علي صناع الموت , ويستسلم لاحضان الدولة العميقة , تلك الاحضان التي فيها مقتله ومقبرته.
وكما علقنا دماء المقتولين عند الاتحادية وفي التحرير في رقبة محمد مرسي , فان الدماء التي اريقت و الاجساد التي ذبحت و النفوس التي انتهكت واهينت في موقعة المقطم ايضا في رقبته.
وعلي الرئيس ان يقف امام المرآة ويواجه نفسه بالاسئلة : اين هي الدولة التي يحكمها؟
اين شرطته التي وقفت تتفرج علي تدفق بنادق الخرطوش وترسانة المولوتوف وقطعان المدججين بالاسلحة البيضاء وهي تمرح في الشوارع؟
اين الجيش الذي تنتهك ادق شئونه اعلاميا صباحا ومساء وهو صامت؟ اين القضاء؟ اين المحاسبة و العدل؟
اين مصر يا رئيس مصر المنتخب؟
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق