لقد خرجت مصر كلها كسيحة من كهف مظلم بقيت فيه لاكثر من خمسة عقود , وحين غادرته الي الضوء اصيب الجميع بدوار وبانت علامات التلعثم و الهذال علي الكافة -- باختصار كانت القماشة التي انتجتها ماكينة العهود السابقة بالغة الاهتراء و الضعف , اذ لم تكن هناك ممارسة حقيقية للسياسة بالمفهوم الذي عرفه العالم المتحضر , ومن ثم يمكن القول ان وطنا بكامله بدا بعد ثورة يناير يتهجي حروف الديمقراطية ويتلمس خطواته الاولي في عالم السياسة.
ولم يكن رئيس الجمهورية الا احد معطيات هذه الحالة , فطبيعي هنا ان يكون بلا خبرة سابقة في شئون الحكم , مثله مثل كل الفلاسفة المتقعرين الذين يجلسون في الشرفات العلوية ويمارسون لعبة الانتقاد وادعاء الخبرة بلا اية مسوغات تمنحهم هذا القدر الهائل من الانتفاخ و الطاووسية الجوفاء.
لقد كان هؤلاء علي خط واحد مع محمد مرسي في سباق انتخابي ارتضوا قواعده , لكنهم بمجرد انتهاء السباق واعلان نتائجه بداوا في محاولات اضرام النار في الملعب كله , حتي الذين هربوا من خوض السباق بمحض ارادتهم حين ناشدتهم الجموع البقاء اصيبوا بصدمة حين وجدوا متسابقا ياتي من الخطوط الخلفية ويفوز , وكانهم قرروا الانتقام من تهربهم وتخاذلهم وخذلانهم لمطالب الجماهير بمعاقبة تلك الجماهير علي اختيارها.
و لا يختلف احد في ان الرئيس المنتخب لم يقدم الاداء الناجح ولا القيادة المبهرة في ادارته للبلاد , كما لا يماري احد في انه وقع في اخطاء كارثية , تجعل البعض يندم علي انتخابه , غير ان ذلك كله لا ينهض مبررا منطقيا او اخلاقيا لمطالبته بان يسلم مفاتيح قصر الرئاسه لمنتقديه من جنرالات الخطابة الراسبين ويقعد في بيته , خصوصا ان هؤلاء ليسوا اكثر منه خبرة , ولا اعظم منه قدرة علي القيادة و الادارة , وعلامات سقوطهم او بالاحري انتحارهم سياسيا وشعبيا ماثلة امام الجميع.
ولو ان الجهود الجبارة و التكاليف الباهظة التي انفقت ولا تزال في تصنيع صورة لرئيس ضعيف الاداء قد وجهت لمحاولة انتشال البلاد من التخبط في دروب الفوضي و الفقر و الفزع , لكان من الممكن ان يفكر الناس في هؤلاء كبدائل محترمة لرئيس اُريدَ له منذ اليوم الاول ان يفشل.
وبوضوح اكثر فان الجميع شركاء بالقدر ذاته في جريمة حرق وطن وانتهاك ثورة تحدث العالم كله عن بهائها ونقائها , الرئيس مشارك بسكونه عندما يكون الفعل لازما وسكوته حينما يكون الكلام واجبا , و المعارضة التي لوثت نفسها بعلاقات تجاور وامتزاج بالثورة المضادة مشاركة ايضا بنزقها وشبقها القاتل للسلطة , باي ثمن , حتي لو كان ذلك مشيا فوق الدماء و الجماجم , او باستدعاء انقلاب عسكري يقذف بمصر ستين عاما الي الوراء.
كلهم في البؤس و الفشل سواء , غير ان من بيده السلطة ينبغي ان يظهر شيئا من القدرة علي المبادرة و المباداة ومحاولة انتشال البلاد من الغرق , واذا كانت ' الموضة ' هذه الايام مطالبة الرئيس بانتخابات رئاسية مبكرة , فان هذا قد يمكن تفهمه باعتباره نوعا من النصيحة , اما ان يتعامل معه البعض علي انه واجب علي الرئيس واستحقاق عليه ان ينفذه صاغرا فهذا ما لا يمكن اعتباره مطلبا عادلا ومشروعا , اذا كنا جادين حقا في احترام قواعد الممارسة الديمقراطية المحترمة.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق