استقالة النبيل محمود مكي وائل قنديل


و انت تتابع انفجارات المستقيلين من مواقع في مؤسسة الرئاسة , سعوا اليها و عرضوا انفسهم و تمنوا الجلوس في مقصورة السلطة العلوية , لا تستطيع ان تمنع نفسك من استحضار حالة رجل نبيل كان نائبا لرئيس الجمهورية , مطلوبا و ليس طالبا او ساعيا , ثم استقال في هدوء و صمت الكبار .

هذا النبيل الكبير هو المستشار محمود مكي القاضي الجليل الذي قبل ان يكون نائبا للرئيس في مرحلة شديدة الصعوبة , لم يتخل في اثنائها عن وقار القاضي و عدله و تجرده و نزاهته في القول و الفعل , و حين صدر الدستور الجديد خاليا من النص علي وجود نائب للرئيس قرر ان يضرب المثل و يغادر موقعه , علي الرغم من ان الدستور لم يتضمن نصا يمنع وجود نائب للرئيس .

و اعلم ان محاولات مضنية بذلت من الرئيس لاثناء النائب عن قراره بالاستقالة , كما سعت قوي سياسية و شخصيات وطنية لاقناعه بالبقاء , خصوصا ان المرحلة كانت تتطلب وجوده بكل ما يتمتع به من وطنية و استقلالية و انفتاح علي مختلف الاطراف دون انحياز الا للحق و المنطق .

غير ان الرجل كان صارما في قرار الاستقالة , و الاجمل من ذلك انه لم يستسلم لاغواء الظهور في وسائل الاعلام , و لم يتصرف مثل حاوٍ يمتلك جرابا كبيرا من الاسرار و الخفايا , يدور به علي الاستوديوهات و يفتي و يدعي المعرفة و العلم بكل شيء , و ينفث مما بقي في صدره من عدم رضا عن اشياء و معارضته لاشياء اخري .

فضيلة المستشار محمود مكي الاساسية انه لم يسلك وفق سيكولوجية ' المسئول التائب ' الذي يقفز في حجر الذين يتربصون بمن كان معهم ثم افترق عنهم وابتعد , وعلي ذلك لم نشاهد مكي جالسا بين انياب التوك شو المتعطش لدماء الفضائح و الاسرار و الخفايا , و لم نجده ضيفا علي صفحات صفراء فاقع لونها , يهاجم ويشتم ويسب ويدعي البطولة و البسالة .

انه لم يتصرف وفق نظرية ' الاستيك ' فيترك نفسه ليشده الطرف الآخر ويتركه ليلسع الناحية الاخري بخفة ورشاقة , امعانا في اظهار التوبة عما كان فيه بملء ارادته و اختياره .

و من المرات النادرة وربما المرة الوحيدة التي قرر فيها نائب الرئيس المستقيل ان يتكلم باقتضاب كانت عندما ادعي الكذابون ان ابنه خريج الحقوق تم تعيينه في مجلس الدولة علي حساب من يستحقون , فاوضح الرجل بجلاء وجلال ان ابنه جري استبعاده من التعيين رغم احقيته فيما عين الحاصلون علي تقدير اقل منه .

لقد رحل محمود مكي عن منصبه مترفعا ورافع الراس , وكان يستطيع الاستمرار , وسكت سكوت النبلاء المحترمين , وكان يستطيع ان يغرق الاستوديوهات باطنان من الكلام ويملا الجرائد بهكتارات من الثرثرة و الرغي فيما كان طرفا فيه و لم يكن -- لكن الرجل آثر ان يكسب نفسه ولا يبتذلها علي النواصي وفي ظلمات الازقة .

عِمت صباحا ايها المحترم .

ليست هناك تعليقات :