فهمي هويدي يكتب : صنفان من الأشرار لا ينبغي التعاطف مع أحدهما


هل يتعين علينا ان ننحاز الي احد الشرين . اسرائيل ونظام الاسد؟ ولماذا لا نرفضهما معا بحيث ندين الجريمة الاسرائيلية المتمثلة في الغارة علي ريف دمشق , وندين في ذات الوقت جرائم نظام الاسد بحق الشعب السوري؟ -- هذا الكلام الذي تصورت انه بديهي صار من المهم التذكير به في اجواء هذا الزمان الذي اهتزت فيه الثوابت واختلطت المعايير و الاوراق , بحيث ما عدنا نعرف علي وجه الدقة من هو العدو ومن الصديق , كما لم نعد نميز بين ما يجب ان نرفضه او نتحفظ عليه او نقبل به.

الغارة الاسرائيلية التي قتلت نحو 300 مواطن سوري , واستهدفت مخازن السلاح ومركزا للابحاث العسكرية في ريف دمشق , كشفت عن ذلك الخلل الذي ادعيه. اذ استغربت حفاوة البعض بهذه الجريمة , واعتبارهم ان استنكارها بمثابة تاييد لنظام الاسد و التحاقا بالمحور الايراني , في حين ان ذلك الاستنكار موجه بالاساس ضد العربدة الاسرائيلية التي استباحت العالم العربي وباتت تتعامل معه بحسبانه جثة هامدة لا حياة فيها ولا كرامة لها.

لقد امر رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بتنفيذ الغارة , وبعد ساعات قليلة من انطلاقها سافر الي الصين , مطمئنا الي ان العرب لن يكترثوا بنتائجها , وان ردهم عليها لن يتجاوز بيانات الشجب و الادانة , وعبارات التهديد و الوعيد , واغلب الظن انه كان مدركا لحقيقة ان العالم العربي منكفئ علي ذاته , وان انظمته باتت عاجزة عن ان تتخذ اي اجراء حازم في مواجهة العدوان الاسرائيلي , فضلا عن ان ثمة اجواء في المنطقة ما عادت تعتبر اسرائيل العدو الاول , ناهيك عن الذين ما عادوا يعتبرونها عدوا من الاساس.

يوم الاثنين الماضي 6/5 نشرت صحيفة ' الشرق الاوسط ' الخبر علي صفحتها الاولي تحت العنوان التالي : غارات اسرائيلية تستهدف صوارخ ايرانية في دمشق , ورغم انها ذكرت علي الصفحة الثانية , نقلا عن المصادر الاسرائيلية ان الغارة استهدفت شحنات من صاروخ سام 17 الروسي الصنع , فان صياغة العنوان بدت تبريرية الي حدٍّ ما. وكان الغارة كانت مجرد تصفية حسابات اسرائيلية ايرانية ولا شان لنا بها. وفي العدد ذاته نشرت الصحيفة تعليقا لاحد كتابها البارزين الاستاذ عبدالرحمن الراشد قال فيه ان : اسرائيل عندما تهاجم النظام السوري فهي تدافع عن امنها ومصالحها , ونحن ايضا عندما نسعد بهجوم الاسرائيليين علي قوات الاسد ومخازنها , لان ذلك سيسرع في سقوط النظام ويجرده من اسلحته التي ستستخدم لقتل المزيد من السوريين , واضاف انه : ' فقط الموالون لايران هم الذين يعارضون وينددون بالغارة الاسرائيلية ' .

هذا الراي الذي له مؤيدوه في بعض الدوائر السياسية نموذج للخلل و التشوه في الادراك , الذي بات يبرر العدوان الاسرائيلي بزعم انه دفاع عن الامن و المصالح. كما انه يعبر عن ' السعادة ' ازاء الهجوم الاسرائيلي , ثم انه يعتبر انتقاد الغارة من قبيل موالاة السياسة الايرانية.

اذكر هنا بان النظام السوري لم يكن يوما ما مصدرا لتهديد الامن او المصالح الاسرائيلية , وفي الاسرائيليين و الامريكيين من اعتبره مريحا لاسرائيل , حيث لم تنطلق من سوريا رصاصة واحدة ضدها منذ عام 1973 , حيث ظل التزام دمشق بالهدنة ثابتا وصارما. اذكر ايضا بان الغارة الاسرائيلية استهدفت مركز جمرايا للبحوث العسكرية. الامر الذي يدل علي ان الهدف الحقيقي لا هو تدمير القدرة العسكرية لسوريا , وليس تدمير الاسلحة التي تقتل الشعب السوري. يؤيد ذلك ان اسرائيل اذا ارادت حقا تدمير الاسلحة الايرانية التي تهدد امنها , فربما كان اجدر بها ان تستهدف مخازن اسلحة حزب الله في لبنان وليس مخازن الجيش السوري في ريف دمشق.

ومن السذاجة و التبسيط الشديدين الادعاء بان انتقاد الغارة تعبير عن موالاة السياسة الايرانية , علما بان الاتفاق مع تلك السياسة في بعض المواقف ليس تهمة او جريمة ' مساندتها للمقاومة الفلسطينية ورفضها التطبيع مع اسرائيل او الخضوع للهيمنة الامريكية من نماذج المواقف التي تستحق التاييد ' . ذلك انني ازعم ان الضمير العربي الذي لم يلوث لا بد له ان يعلن رفض الغارة وادانتها. انطلاقا من الحرص علي قوة سوريا التي نتمناها وليس سوريا الاسد. وحين نرفض الغارة فاننا نميز بين جريمة عدو هو اسرائيل وجريمة شقيق في سوريا. ذلك ان سوريا التي نعرفها اكبر وابقي من الاسد وعائلته وحزبه. ومن ثم فانحيازنا الحقيقي هو لسوريا التي نعرفها , وخصومتنا مع نظامها ينبغي الا تدفعنا باي حال الي التوافق او الحفاوة بممارسات العدو الاستراتيجي و التاريخي.

هما قاتلان في حقيقة الامر احدهما ' اصولي ' قتل الشعب الفلسطيني و الثاني ' منحرف ' قتل الشعب السوري , الامر الذي يضعنا في النهاية بازاء صنفين من الاشرار , لا نستطيع ان نتعاطف مع اي منهما , وانما يتعين ان ندرجهما معا في قوائمنا السوداء.

ليست هناك تعليقات :