انتقال المعارضة من الابتدائية الي الاعدادية معتز بالله عبد الفتاح


هل تصدقونني لو قلت لكم ان اهم اشخاص في مصر الآن ليسوا مَن هم في السلطة , وانما من هم في المعارضة؟ و المثال الذي يحضرني هو انه بعد تحول القطار من حالة السكون الي حالة الحركة , فان ' الفرامل ' تكون هي بطل المشهد . لان عليها ان تضع حدا لهذه الحركة والا انقلب القطار.

هذه كانت مقدمة مقالي في 5 سبتمبر 2012 , اي قبل الاعلان الدستوري وقبل كل الصراعات السياسية التي نشهدها الآن. وجاء في المقال ايضا ان المعارضة المقصودة هنا هي المعارضة ' العاقلة ' او المعارضة الموالية للتقاليد الديمقراطية التي تعارض النظام الحاكم ولا تعارض الدولة , تحترم ارادة صندوق الانتخابات لكنها تراقب اداء من وصلوا الي السلطة عبره. هي تعارض بقدر ما يصلح النظام وليس بقدر ما يقتله , كالدواء يؤخذ بقدر حتي لا يتحول هو بذاته الي مصدر للداء. تضع القليل من النار تحت مقعد السلطة , لكنها حريصة علي الا تحرق المقعد . لان الخروج علي قواعد الديمقراطية مرة سيعني الخروج عليها مرات , وبالتالي تعم الفوضي. ولو كان لي ان استعير من التاريخ الامريكي مثالا فقد كانت تلك المنافسة بين توماس جيفرسون , الذي فاز في النهاية بالرئاسة , والكسندر هاميلتون , الذي قاد المعارضة ضده. وهذا الاخير كان من الفطنة ان يلعب دور المعارضة دون الاخلال بثلاثة شروط , وفقا له , وهي : اولا : الا يدعم اي قوي خارجية ضد حكومة بلاده الشرعية , ثانيا : الا يسمح لاحد بتهديد استمرار واستقرار الاتحاد ' يقصد وحدة الولايات المتحدة الامريكية ' , وثالثا : الا يقول او يفعل ما يهز ثقة الشعب الامريكي في المؤسسات و التقاليد الجمهورية , وكانت كلمة جمهورية تُستخدم آنذاك مثلما نستخدم نحن كلمة الديمقراطية.

وجاء في المقال ايضا , وهذه هي مسئولية مرشحي الرئاسة السابقين ومعهم الدكتور محمد البرادعي , نريد منهم معارضة بنّاءة وعاقلة وحريصة علي صالح الوطن , تحترم الديمقراطية بابعادها الثلاثة : ديمقراطية الوصول للسلطة , وديمقراطية ممارسة السلطة , وديمقراطية الخروج منها.

ومن هنا , فان الدور الذي يلعبه بعض السادة المرشحين السابقين من اجل انشاء تحالفات او جبهات او تيارات سياسية هو مسالة مقدرة تماما. وهو المدخل المنطقي لان تنبني الدولة الديمقراطية الناشئة علي اسس سليمة , وهو ما يقتضي منهم السعي الي التعدد في اطار الوحدة , و التنوع في اطار التوجه الواحد لانه من غير ذلك فان وجودهم لن يفيد المجتمع , بل سيضره.

حركة تمرد تقدم مثالا جيدا علي الحركة في الشارع , لكنها ستظل صيحة رفض بحاجة لوعاء او اوعية تستفيد منها وتحفظ لها توجهها والا نعيد انتاج نفس المشهد الذي رايناه في الميدان : نعرف ماذا نرفض , ونجهل ماذا نريد , نعرف من نرفض , ونجهل من نريد. يوم ان وقع اجدادنا علي توكيلات لسعد زغلول وصحبه كان التوجه اوضح فنعرف ماذا نريد ومن نريد.

ولكن حدث تطور مهم في الاسبوع الماضي , هو ظهور وثيقة ' مصر المستقبل ' التي قدم لها الدكتور محمد البرادعي وكانها نقطة بداية ضرورية وان لم تكن كافية في نقاش موضوعي حول رؤية بديلة لمستقبل الوطن مقارنة بمشروع النهضة. ولا اود ان ادخل في تقييم مباشر لما هو موجود في الوثيقتين . لان كلتيهما تفترض اصلا وجود ' دولة ' ومجتمع مستعد للنهضة وجهاز اداري مستعد للانطلاق وبيئة سياسية مستعدة للتعاون مع الفائز في الانتخابات من اجل مستقبل افضل. وهي كلها افتراضات اثبتت التجارب انها بعيدة عن الواقع لحد ما.

وقد ضاعف الاداء السياسي المربك و المرتبك للسلطة الحاكمة من صعوبة تحقيق التوافق واصبحت مقولات المزايدة و المكايدة تجعل اي كلام علي ورق مجرد كلام.

مقررات تقييم السياسات العامة للدول , وهي مرتبطة بتقييم البرامج السياسية , تفترض وجود عدة شروط تجمعها كلمة ' SMART ' باللغة الانجليزية . حيث حرف الS يعني ' specific ' اي ان يكون البرنامج محددا بعيدا عن الالفاظ العامة الا في المقدمة التي تلهب الحماس , ثانيا : ينبغي ان تكون ' measurable ' قابلة للقياس وفقا لمؤشرات اداء محددة سلفا ' key performance indicators ' , وتكون الاهداف قابلة للتحقيق في ضوء الامكانات المتاحة ' attainable ' ولا بد من تحديد هذه الامكانات , وعليه لا بد الا يستبد بنا الطموح لما هو مثالي اكثر مما ينبغي , اي ان تكون واقعية ' realistic ' , واخيرا ان تكون موضوعة في اطار زمني محدد ' time bound ' .

ولو طبقنا المعايير السابقة علي مشروع ' مصر المستقبل ' فلا شك انه سيحتاج المزيد من التطوير , لكن هذا ليس عيبا بقدر ما هو التطور الطبيعي للامور , و القائمون عليه وضعوا عبارة مفتاحية توضح وعيهم به , هي انها ' ورقة عمل للحوار و المناقشة ' . المشروع وضع محاور عشرة للتنمية , بدءا من محاصرة الفقر وضبط الاسعار وخلق اقتصاد وطني وتوفير فرص عمل واصلاح مؤسسي شامل وضمان سيادة القانون وحماية الحريات واستعادة دور مصر الخارجي وتاهيل المواطن المصري لتحديات المستقبل و الحفاظ علي الموارد الطبيعية و البيئية و التراث. ثم هناك دراسة اكثر تفصيلا لمجالات بذاتها من التعليم الي الصحة الي الزراعة الي الصناعة و الاسكان و الاعلام و المجتمع المدني.

اذن هي رؤوس اقلام ومحاور للنقاش المجتمعي و الوطني الاوسع , تقدم رؤية تستحق ان نتفاعل معها حتي نخرج من شرنقة الديمقراطية العرجاء التي توجد فيها رؤية واحدة وعشرات الاصوات التي تعارضها دون طرح البدائل.

هذه خطوة كنت اتمناها . حيث يشرع التيار الليبرالي في تقديم رؤيته , حتي ان كانت اولية , لما يريد . لانه من بين جميع الرؤي المطروحة علي الساحة السياسية من اليسار بتنويعاته الي اليمين الديني بتنويعاته الاكثر اعتدالا و الاكثر تطرفا , الصوت الذي اعتقد ان مصر بحاجة اليه الآن هو الليبرالية العاقلة التي تهتم بمشاكل المصريين الحاليين الحقيقيين وليست القائمة علي استنساخ تجارب وقيم غربية لتطبيقها في مصر وكاننا سنستورد مع الافكار الغربية اشخاصا اجانب لتطبيقها.

خطوة موفقة , واتمني ان تتلوها خطوات في زراعة الساق الاخري للديمقراطية المصرية. علينا ان نساعد المعارضة المصرية , فقد تضطلع بدورها التاريخي في موازنة السلطة الحاكمة , شرط ان تكون عاقلة قادرة علي البناء وطرح البدائل. ولا ننسي المقولة الشعراوية الشهيرة : ' دوام الخلاف من الاعتساف , ودوام الاتفاق من النفاق ' .

ليست هناك تعليقات :