تحية من مصر العربية فهمي هويدي

يعود المؤتمر القومي العربي للانعقاد في القاهرة اليوم , بعد غيبة استمرت خمسة عشر عاما , ظل خلالها ممنوعا من الدخول ومدرجا ضمن القوائم السوداء الموزعة علي مطارات مصر , باعتباره كيانا غير مرغوب فيه. ولم يكن ذلك اجراء موجها ضد فكرة المؤتمر بقدر ما كان تعبيرا عن النفور من مشروعه واستحقاقاته. ذلك ان النظام السابق اذا كان قد صنف باعتباره كنزا استراتيجيا لاسرائيل , فقد بدا طبيعيا ان يباعد ذلك تلقائيا بينه وبين الدعوة الي الاعتزاز بالانتماء الي الامة العربية و التعلق بحلمها في الاستقلال و التقدم. ثم ان ذلك التباعد كان من تداعيات وتجليات مرحلة ما بعد الصلح مع اسرائيل التي اخرجت مصر من الصف العربي ورشحتها للانضمام الي معسكر ' الاعتدال ' الامريكي الاسرائيلي. ومن ثم رفعت منسوب المشاعر القطرية التي غدت مدخلا سوغ الارتماء في احضان ذلك المعسكر المشبوه. وهو ما استصحب انقلابا علي ثقافة وقيم المرحلة التي قادت فيها مصر حركة التحرر الوطني وتصدت للهيمنة الغربية وراهنت علي وحدة الامة العربية.
اول وآخر مرة انعقد فيها المؤتمر العربي في مصر كان في سنة 1998 ' المؤتمر اسسه نخبة من المثقفين العرب في بيروت سنة 1990 ' . ولانني كنت من بين من حضروا جلساته آنذاك , فقد كان واضحا انه استقبل استقبالا فاترا , وان اعين الاجهزة الامنية كانت تراقب وترصد انشطته. واذكر ان السيد راشد الغنوشي مؤسس حركة النهضة في تونس كان من بين من شاركوا فيه , الا ان الاجهزة الامنية اقتحمت غرفته ذات مساء وطلبت منه ان يلملم حاجياته لانه شخص غير مرغوب فيه , وبالفعل تم ترحيل الرجل الذي كان قد اختار بريطانيا منفي له , حين لم يحتمله نظام بن علي الذي ظل يطارده حيثما ذهب. وكان اخراجه من مصر من تجليات تلك المطاردة.
حين طرحت فكرة عقد الدورة الرابعة و العشرين في مصر بعد ثورة 25 يناير لم يكن هناك شك في ان مصر الجديدة سترحب به سياسيا , لكن المشكلة الاساسية التي شغلت منظميه كانت ان معظم الناشطين من القوميين العرب كانوا ممنوعين من دخول البلد , واسماؤهم مخزنة في اجهزة الكمبيوتر بالمطارات. ولذلك لم يكن مطلوبا فقط ان يرحب سياسيا بعقد المؤتمر , ولكن كان مطلوبا ايضا ان يسمح للمدرجة اسماؤهم علي القوائم السوداء بالدخول , هذا اذا لم يلغ الحظر المفروض علي دخولهم بعد زوال النظام الذي فرضه. وفيما فهمت فان ذلك كله تم خلال ايام قليلة , بعدما استقبل الرئيس محمد مرسي رئيس اللجنة التحضيرية لعقد المؤتمر في مصر , الدكتور محمد السعيد ادريس , وتم التعاون مع مختلف الاجهزة المعنية في تيسير دخول المدعوين الذين بلغ عددهم نحو 150 شخصا قدموا من جميع الاقطار العربية. جميعهم من المثقفين العرب الذين لايزالون يتعلقون بحلم الامة في الوحدة المؤجل , و الذين اختاروا مواصلة السباحة ضد التيار في ازمنة هيمنة السياسات القطرية , التي اختلت فيها الاولويات و الموازين وشوهت المشاعر حتي سادت ثقافة الانكفاء و الاستتباع للغرب , وصارت الدعوة الي الوحدة العربية محلا للاستهجان و الغمز لدي البعض.
مصر التي يلتقي فيها اعضاء المؤتمر القومي اليوم وغدا تعاني من تلك التشوهات , التي خلفتها سياسات وممارسات المرحلة السابقة , اذ من الناحية العملية لم يكن متوقعا ان يتم التخلص من مواريث 35 عاما من الانكفاء و الاستتباع خلال السنتين اللتين اعقبتا الثورة. ولا يتوقع احد ان يغير مؤتمر المثقفين العروبيين شيئا في الاجواء المصرية ولا في الخرائط العربية , لكن اجتماعهم في القاهرة يظل بمثابة رسالة تذكر من نسي بانه بعد عودة مصر للمصريين فان الامة تنتظر ان تعود مصر الي العرب , وان الصراع العبثي الذي يجري بين الجماعة الوطنية في مصر الآن يضر بالعودة الاولي ويؤجل الثانية , في حين ان الرياح المعاكسة تحتشد وتتاهب للانقضاض و العصف بالعودتين.
اكرر اننا لا نستطيع ان نتوقع الكثير من انعقاد المؤتمر القومي , لكننا نعتبر ان رسالة انعقاده في القاهرة تعد بذاتها امرا ايجابيا يتعين الحفاوة به , ولو ان نشطاءه استطاعوا ان يعالجوا الصدع الذي حدث بين القوميين و الاسلاميين بعد الثورة لعد ذلك انجازا مهما يلملم جانبا من التشرذم الحاصل. ذلك اننا اذا لم نستطع ان نقاوم انفراط الاوطان , الحاصل تحت اعيننا , فلا اقل من نتشبث بامل وقف انفراط الصف الوطني.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق