فهمي هويدي : عندما يدين القاضي المصري نفسه و ينحاز للمسيحية على حساب الاسلام


ما هي الرسالة التي يتلقاها المجتمع في مصر حين يجد ان شخصا ادين بازدراء الدين المسيحي فحكم عليه بالحبس مدة 11 سنة كما حكم بحبس ابنه 8 سنوات , وحين ادينت مدرسة بازدراء الدين الاسلامي فان القاضي حكم بتغريمها مبلغ عشرة آلاف جنيه؟

ما تمنيت ان اجري هذه المقابلة , وما تمنيت ان يتراشق المتعصبون المسلمون و الاقباط ويتبادلوا التجريح و الاتهامات , علما بان سب معتقدات اصحاب الديانات الاخري منهي عنه بنص القرآن , علي الاقل كي لا يسبوا الله ' عَدْوا بغير علم ' , كما تقول الآية 108 من سورة الانعام. ثم ان تبادل السباب و الازدراء بين المتدينين يعد اهانة لنا جميعا وتعبيرا عن تردي اوضاعنا وتهتك وشائجنا , لاننا قبل سنوات كنا قد قطعنا شوطا في الحوار الاسلامي المسيحي دفاعا عن العيش المشترك و السلم الاهلي , واذا بنا الآن ننتكس ونتراجع الي الوراء بعدما صرنا متمنين وقف السباب وفض الاشتباك بين المسلمين و الاقباط.

ادري ان الموضوع دقيق وحساس , وان النفوس معباة بدرجات متفاوتة من العتاب و الغضب. وافهم ان التعصب و المرارات تتوزع علي الجانبين , لكني احمل الاغلبية بالمسئولية الاكبر عن ازالة المخاوف واشاعة الطمانينة وارساء قواعد السلم و التعايش المنشودين. ولا استطيع ان اتجاهل ان وباء الاستقطاب الذي تفشي في مصر اصاب علاقات المسلمين بالاقباط , وان صوت المتطرفين علا بقدر تراجع دوائر العقلاء و المعتدلين. كما لا انكر ان ثمة اطرافا تسعي جاهدة لتعميق الحساسيات و المرارات الطائفية واذكاء اسباب الخلاف بكل السبل. ولا اخفي انني ترددت في اثارة الموضوع و المقارنة بين العقوبتين السالفتين ليس فقط استهجانا وشعورا بالقرف من فكرة تحول ازدراء الاديان الي ظاهرة في الساحة المصرية , ولكن ايضا تحسبا لاحتمالات التاويل واساءة الظن في اجواء الحساسيات الراهنة. لكني راهنت علي ان احدا لا يستطيع ان يزايد عليَّ في الموضوع , متصورا ان موقفي من العلاقة مع الاقباط محسوم ومعلن منذ اكثر من ربع قرن , حين صدر لي كتاب ' مواطنون لا ذميون ' في سنة 1985. وهو ما احسبه رصيدا يقطع الطريق علي اي تفكير في استقبال ما اكتبه باعتباره تحيزا ودفاعا عن الازدراء بالديانة المسيحية الذي صدر عن صاحبنا احمد عبدالله ' ابواسلام ' الذي صدر الحكم بحبسه.

ولكي اكون اكثر وضوحا اسجل انني لم آخذ الرجل يوما ما علي محمل الجد , وانما اعتبرته احد غلاة المتدينين المسطحين الذين كرسوا جهودهم لمخاصمة الاقباط و الدفاع عن النقاب , وخاض معركته الاولي باصدار مجلة محدودة التوزيع باسم كنيستي المصرية , ولاجل معركته الثانية فانه انشا قناة تليفزيونية خاصة بالمنتقبات. ولدي علامات استفهام كثيرة حول الجهة التي تمول المشروعين.

الخلاصة انه ليس اي دفاع عن فكر الرجل وما صدر عنه من قول او فعل بحق الاقباط , لكنني ادافع عن مظلوميته. وازعم ان الحكم بحبسه مدة 11 سنة وحبس ابنه ثماني سنوات يعبر عن غلو وشطط من جانب القاضي تفوح منه رائحة تفتقد الي البراءة اكرر ان صاحبنا تجنَّي واخطا وما كان له ان يسيء الي الاقباط او كتابهم المقدس لكن الجزاء لا يتناسب البتة مع الفعل الذي صدر عنه. صحيح ان تقدير الحكم متروك للقاضي , لكنه ليس مطلق اليد في ذلك. وهذا التحفظ معمول به في احكام القضاء الاداري التي كثيرا ما انتقدت المبالغة في عنصر التقدير من جانب بعض القضاة , ودابت علي نقد الاحكام التي يثبت فيها ان القاضي جنح الي الشطط , حين انزل عقوبة بحق اناس لا تتناسب مع ما صدر عنهم من فعل , او اتسمت احكامهم بالغلو و الجسامة اذا ما قورنت بالسوابق و الافعال المماثلة.

لا اجادل في محاسبة ابواسلام ومعاقبته , وهناك اكثر من صيغة للعقاب , وغرامة العشرة آلاف جنيه التي عوقبت بها المدرسة التي ادينت في تهمة الازدراء بالدين الاسلامي نموذج لذلك. وستظل المقارنة بين العقوبتين دليلا علي الغلو و الشطط الذي وقع فيه قاضي محكمة مدينة نصر حين قرر حبس ابواسلام 11 عاما في الحكم الذي اصدره في 15/6 الحالي.

ولان البون شاسع و المقارنة فادحة وفاضحة بين حكمي الغرامة و الحبس , فانه يخطر لي ان حكم الحبس الجائر بحق الرجل وابنه فيه من السياسة اكثر مما فيه من الانصاف , وهو خاطر لا ياتي من فراغ , لكنه يجد قرينة له في التحولات السلبية التي نشهدها في ساحة القضاء , و التي حولت بعضهم الي ' نشطاء ' يغلبون الهوي السياسي علي معايير احقاق الحق واقامة العدل.

في زماننا احكام تدين القاضي باكثر مما تدين المتهم , وما جري مع ابواسلام من ذلك الصنف.

ليست هناك تعليقات :