احتمالات انتخابات الرئاسة في ايران فهمي هويدي


الانتخابات الرئاسية الايرانية التي تجري يوم الجمعة القادم هي الاكثر استعصاء وتعقيدا من كل سابقاتها , الامر الذي يجعلها مصدرا لغموض وحيرة بالغين , يتعذر في ظلهما التنبؤ بما اذا كانت حصيلتها تشكل خطوة الي الامام ام الي الوراء.


' 1 '
خلال ربع القرن الاخير , منذ تولي السيد علي خامنئي منصبه مرشدا للثورة في عام 1989 , قدر لي ان اتابع الانتخابات التي فاز فيها رؤساء الجمهوريات الثلاثة هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي واحمدي نجاد , حيث قضي كل واحد ثماني سنوات في منصبه. وخلال تلك الجولات كان بوسع المراقبين الذين كنت واحدا منهم ان يتعرفوا علي المرشح الذي ترجح كفته , علي الاقل من خلال ملاحظة نبض الشارع. كان ذلك سهلا مع رافسنجاني وخاتمي واصعب في حالة احمدي نجاد الذي لم يكن يعرفه احد , باستثناء انه كان محافظا ناجحا ورئيسا لبلدية طهران.

لكن كل تلك الخبرات تظل في كفة ومشهد الانتخابات الراهنة في كفة اخري , خصوصا انهم جميعا ليسوا من رجال الصف الاول للثورة , وانما هم من ابناء الصف الثاني او الثالث او حتي الرابع ' المرشح الدكتور سعيد جليلي كان عمره 14 عاما حين قامت الثورة ' .

ثمة سبب آخر لا يقل اهمية هو انني في المرات السابقة كنت اتجول في شوارع طهران وبعض المدن الاخري في محاولة لتحسس نبض الشارع , لكنني فوجئت هذه المرة بانه لم يكن هناك شارع في طهران علي الاقل. لان رئيس البلدية ' هو بالمناسبة احد المرشحين ' منع الدعاية في الشارع والزم المرشحين بان تكون دعاية كل واحدة منهم مقصورة علي مقره في العاصمة , وعلي استخدام لوحات متواضعة الحجم وزعت علي بعض نواصي الشوارع , وهو اجراء له مغزاه الذي ساتحدث عنه توا.

' 2 '
رغم اجواء الغموض و الحيرة المخيمة علي الافق السياسي في ايران فبوسع المرء ان يسجل خمس ملاحظات علي الاقل هي :
1 ان السلطة القائمة المرشد في الاغلب حرصت علي الا يتكرر في الانتخابات هذه المرة ما جري في عام 2009 , حين خرجت المظاهرات الاحتجاجية علي النتائج الي شوارع طهران التي احتفت بها الدوائر الغريبة ووصفت حينذاك بانها حركة خضراء ' البعض يصفها الآن بانها فتنة ومؤامرة ' , وقد تزعم تلك الاحتجاجات اثنان من المرشحين , هما مير حسين موسوي رئيس الوزراء الاسبق ومهدي كروبي رئيس مجلس الشوري.
' هما رهن الاقامة الجبرية الآن ' . ولا استبعد ان يكون منع حملات الشوارع وثيق الصلة بالاحتياطات التي اتخذت لعدم تكرار ما جري حينذاك , كما ان هناك احتياطات اخري اتخذت لمراقبة الاتصالات الهاتفية وحجب المواقع الالكترونية لقطع الطريق علي اي محاولة لاثارة الاضطرابات بمناسبة الانتخابات.

2 الي ما قبل من موعد التصويت من الواضح ان كفة المحافظين مرجحة علي الاصلاحيين. الا ان باب المفاجآت يظل مفتوحا علي نحو قد يقلب الصورة لصالح الاخيرين. و المفاجاة المرتقبة في هذا السياق ان يعلن الرئيسان السابقان هاشمي رفسنجاني و السيد خاتمي تاييدهما للمرشح الاصلاحي الدكتور حسن روحاني , واذا ما حدث ذلك فان احتمالات فوزه باغلبية الاصوات ستصبح كبيرة.

3 رغم ان المرشحين الذين اقرهم مجلس صيانة الدستور ثمانية , فان السباق الحقيقي بين اربعة هم : محمد باقر قاليباف رئيس بلدية طهران الدكتور علي ولايتي مستشار المرشد ووزير الخارجية طوال 16 سنة الدكتور حسن روحاني ' رجل الدين الوحيد بين المرشحين ' مسئول مجلس الامن القومي السابق وعضو مجلس خبراء القيادة وعضو مجمع تشخيص مصلحة النظام الدكتور سعيد جليلي مسئول الملف النووي في مجلس الامن القومي.

4 ثمة اتفاق بين مراكز استطلاع الراي المحللين علي انه لا مفر من الاعادة بين اثنين من المرشحين , لانه لا توجد بين الثمانية الشخصية القوية التي تستطيع ان تحسم السباق من الجولة الاولي.

5 ايا كانت النتائج سيظل الفائز الحقيقي في الانتخابات هو المرشد السيد علي خامنئي ' 74 سنة ' الذي اذا مد الله في عمره , فانه سيقضي السنوات الثماني القادمة هادئ البال وبغير اية منغصات من جانب مؤسسة الرئاسة , لان الرئيس المنتظر سيكون احد رجاله المخلصين , ذلك ان قاليباف يعتبر نفسه من جنوده , اما الدكتور ولايتي فهو مستشاره , وجليلي وروحاني يمثلانه في مجلس الامن القومي , رغم ان الاول يعد محافظا و الثاني اصلاحي.

' 3 '
ما سبق يعد استباقا قد يصيب وقد يخيب. وهو رصد للمشهد في الاسبوع الاخير من الرحلة , في حين ان ثمة مشاهد اخري سابقة لا تكتمل الصورة بغير الاحاطة بها. فالمرشحون الثمانية الذين يتنافسون الآن هم من تمت اجازتهم من قبل مجلس صياغة الدستور , يعد فرز اوراق اكثر من 600 مرشح قدموا اوراقهم لكي يدخلوا السباق. ولئن بدا ان الذين تمت اجازتهم قد اصبحوا في صدارة المشهد , الا ان خبرهم لم يكن مثيرا للدهشة او اللغط , لان كليهما كانا من نصيب المستبعدين.

اعني بذلك تحديدا السيد هاشمي رفسنجاني احد رفاق الامام الخميني الذي راس مجلس الشوري ورئاسة الجمهورية , وهو الآن رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام , وكان له دوره البارز في تولي السيد خامنئي منصب المرشد بعد وفاة الامام. كما اعني السيد اسفنديار رحيم شائي رئيس الاركان السابق الذي رفض المرشد تعيينه نائبا لاحمدي نجاد رئيس الجمهورية , فاختاره الرجل مستشارا اول له. ورفسنجاني له ثقله التاريخي وشخصيته القوية و العريضة , فضلا علي انه صنف ضمن قادة الاصلاحيين الي جانب السيد خاتمي. اما مشائي فان المحافظين يعتبرونه منحرفا , اضافة الي انه شعبوي له مؤيدون كثيرون في اوساط العامة , في حين ان النخب لا ترحب به كثيرا.

في الظروف العادية فان حملة الانتخابات الرئاسة تبدا قبل موعد التصويت بحوالي سبعة الي ثمانية اشهر , الا انها تاخرت كثيرا هذه المرة , لان الجميع وفي مقدمتهم المرشحون كانوا في انتظار التعرف علي موقف كل من رفسنجاني ومشائي , وظل السؤال المتداول هو ماذا سيكون مصير التحالفات اذا ما ترشح الرجلان.

وعلي سبيل المثال فان المرشحين الثلاثة الدكاترة علي ولايتي وحداد عادل وسعيد جليلي اتفقوا فيما بينهم علي التنازل لواحد منهم اذا ما رشح رفسنجاني نفسه , وكان مفهوما ان الاصلاحيين حسن روحاني ومحمد رضا عارف الذي كان نائبا للسيد خاتمي اثناء رئاسته للجمهورية سوف ينسحبان من السياق اذا دخل رفسنجاني الي الحلبة. وحين استبعد الشيخ المخضرم فان الثلاثة لم يتنازل منهم احد , كما ان روحاني وعارف واصلا المشوار. وكما ذكرت قبلا فان الجميع لا يزالون يتساءلون عما اذا كان الشيخان رفسنجاني وخاتمي سيلتزمان الصمت حتي اللحظة الاخيرة , ام انهما سيؤيدان الدكتور حسن روحاني بما قد يقلب الطاولة في اللحظة الاخيرة.

اللافت للنظر ان الشيخ رفسنجاني الذي اعرض الناخبون عنه في انتخابات عام 2009 حتي خسر السباق امام الرئيس الحالي احمدي نجاد اصبح يتمتع بشعبية كبيرة بعد ذلك , حتي اتفقت الآراء واستطلاعات الراي علي انه سوف يفوز في الجولة الاولي اذا ما سمح له بالترشح هذه المرة. لهذا فان مفاجاة استبعاده كانت اكثر ما اثار اللغط و الدهشة في المعركة الانتخابية , بل كان الخبر الرئيسي في كل نشرات اخبار المعركة.

السؤال الذي اثار اللغط هو كيف يمكن ان يستعبد من الترشح الرجل الثاني في الدولة الايرانية الآن , رغم انه تولي الرئاسة من قبل واثبت كفاءة ونجاحا , فضلا علي انه من مؤسسي الثورة واعمدتها الرئيسية؟ لم يكن مقنعا ما قيل من ان الرجل تقدم في العمر ' 79 سنة ' ولم يعد قادرا علي تحمل مسئولية المنصب. لان الامام الخميني قاد الثورة وهو في الثمانين , فضلا علي ان الحجة ذاتها يمكن ان تستخدم ضد السيد خامنئي حين يبلغ تلك السن بعد خمس سنوات , ليطالب بسببها بالتنحي عن منصبه.

الراي الذي سمعته من اغلب الذين تحدثت اليهم ان استبعاد رفسنجاني كان في حده الادني لارضاء السيد خامنئي ان لم يكن برغبة منه. لان الرجل يعتبر نفسه شريكا وليس مقلدا للمرشد.

والشريك يمكن ان يكون منافسا او مناوئا , وهذا ما لا يرحب به القائد. وهناك تفاصيل كثيرة تتردد عن محاولة الشيخ مقابلة المرشد و التفاهم معه قبل تقديم اوراق ترشحه , لكن ذلك اللقاء لم يتم , ولذلك فان رفسنجاني اتخذ قراره في نصف الساعة الاخير قبل انتهاء الموعد.

ويحسب له انه التزم الصمت حين رفضت اجازته , وباستثناء اشارات ضيق واستياء مقتضبة , فانه هو ومشائي لم يحولا الرفض الي ازمة او معركة مع المرشد. وآثرا تمرير الموقف في هدوء حفاظا علي استقرار الموقف الداخلي.

' 4 '
حين زرت طهران في آخر مرة قبل سنتين كانت لا تزال كما عرفتها مدينة الشهداء التي تغطي جدرانها صور وجوه الايرانيين الذين سقطوا في حرب السنوات التسع مع العراق. لكن مدينة الشهداء اصبحت الآن مدينة الجسور و الانفاق و الطرق الالتفافية السريعة , الي غير ذلك من مظاهر الانقلاب العمراني الذي عرفته العاصمة منذ انتخب قاليباف رئيسا للبلدية فيها.

لاحظت ايضا ان ارتفاع البنايات و الابراج السكنية توازي مع ارتفاع مماثل في اسعار السلع الغذائية , التي تضاعفت اسعار بعضها ثماني مرات في المتوسط , وفي حين ارتفعت البنايات و الاسعار فان صوت النخبة الذي اعرفه صاخبا ولاذعا انخفض كثيرا , حتي اصبح الحوار من خلال الهواتف المحمولة و الانترنت متقدما كثيرا علي الحوار الذي تشهده المنابر العامة الملتزمة بسياسة الدولة وتوجيهات المرشد.

وحين قلت ان المرشد في خطبته بمرقد الامام الخميني في ذكري وفاته حث الناس علي التصويت في الانتخابات الرئاسية وتحويل المناسبة الي ' ملحمة ' , قال لي احد الخبراء ان الولي الفقيه يتاهب للدخول في طور جديد يمارس فيه ولايته المطلقة. وهذه الانتخابات تهمه شخصيا باكثر مما تهم المجتمع الايراني.

لذلك لن استغرب اذا قل اقبال الناس عليها , بعدما ادرك كثيرون انهم ليسوا طرفا اصيلا فيها , وهو ملاحظة استوقفتني حتي صرت اسال : في هذه الحالة هل تكون الانتخابات قرينة علي التقدم الي الامام ام النكوص و التراجع الي الوراء , وهو سؤال لا اطرحه من فراغ , لان الحوارات غير المسموعة في وسائل الاعلام باتت تدعو الي اعادة النظر في صلاحيات المرشد ووضع المرجعية والي التفكير من جديد في مسالة ولاية الفقيه , خصوصا ان المرشد السيد خامنئي في العام القادم سيكون قد قضي ربع قرن في منصبه.

ليست هناك تعليقات :