فهمي هويدي : هل تلوث العقل الجمعي المصري الي تلك الدرجة ؟
من اشق ما يمكن علي ' المرء ' ان يكتب في السياسات الجارية الآن. لان الموقف ' في مصر ' علي قدر هائل من الاستقطاب بين طرفين كليهما جانح عن التوازن. وحجم الاخطاء المرتكبة التي تمارس كبير جدا. ولا يترك هذا الوضع مجالا للمواقف المتوازنة ولا للحديث و التعليق الموضوعي علي الاحداث و التصرفات ' ذلك ان ' اي نقد لاي تصرف يستغله الطرف الآخر بما لا يبقي وجها للاستقلال عنه ولا التميز عنه. واي تاييد لموقف احد الطرفين يعتبر انحيازا له لدي الطرف الآخر. وهذا الحال هو من سمات فترات ' الحروب الفكرية ' التي حذرنا منها من سنين بعيدة. فان اول افعال تلك الحروب واهمها هو تحطيم جسور الاتصال بين الاطراف المتحاربة وتكليف حراسة الحدود وتعبئة الحراس علي الحدود بين الاطراف المتواجدة. وسيادة معيار وحيد هو الانحياز المطلق او الصمت التام.
الفقرة اعلاه بكاملها ليست لي , ولكنها منطوق شخَّص فيه المستشار طارق البشري احد اهم اوجه ازمة الطبقة السياسية المصرية بعد الثورة , حين قرر من جانبه ان يتمرد علي ذلك الواقع , ويسجل رايه في قراري المحكمة الدستورية بشان الانتخابات. وكانت جريدة الشروق قد نشرت مقالته تلك في عدد 2/6 الحالي , وبسبب غيابي عن مصر حينذاك , فانه لم يتح لي ان اطالع المقالة الا في وقت لاحق. وهو ما مس وترا حساسا عندي تختلط فيه مشاعر الدهشة و الحيرة و الحزن. ذلك ان الحرب الفكرية و السياسية التي تدور رحاها في الساحة المصرية قلبت المشهد السياسي علي نحو لم يكن في الحسبان , من حيث انها شوهت مدارك وقطعت علائق ونسفت جسورا واقامت علي انقاضها جدرانا عالية رفعت شعارا واحدا هو ' الاحتراب هو الحل ' , فلا سلام ولا كلام ولا وئام في نظر البعض بل ما عاد الوطن يحتمل عيشا مشتركا , بعدما بدا ان استمرار احد الطرفين بات مرهونا باقصاء الطرف الآخر , وابادته سياسيا علي الاقل. والي ان يتحقق ذلك , فلا حدود للاشتباك , ولا قواعد للصراع ولا كرامة لاحد من المتصارعين.
التشخيص الذي ساقه المستشار البشري في تقديمه لوجهة نظره بشان قراري المحكمة الدستورية قد لا يكون مضطرا لايراده في الظروف العادية. لانه كان بوسعه ان يدخل في الموضوع مباشرة دون ان ينبه القارئ الي التشوهات التي باتت تعاني منها الساحة الثقافية المصرية في الوقت الراهن , التي سممت الاجواء علي نحو بات الحياد في ظلها مستحيلا , كما بات الكلام الموضوعي مسوغا للاتهام بالتحيز. وهو محق في ذلك لا ريب لاننا صرنا بازاء ظرف غير عادي تغيرت فيه المعايير وتبدلت المفاهيم , ليس لدي عامة الناس فحسب انما ايضا لدي النخب وفي اوساط الطبقة السياسية ايضا.
اذا لم تخاصم الطرف الآخر وتتجه اليه بالهجاء و السباب فانت لست متهما بالانحياز فحسب , ولكنك خارج عن الملة الوطنية في نظر طرف ومشكوك في صدق ايمانك في نظر الطرف الآخر.
من ثم فما قد تظنه حيادا او رؤية موضوعية تنتقد السلبيات وترصد الايجابيات , هو عند الميليشيات السياسية المتربصة مسوغ للتكفير و الطرد من جانب كهنة الطرفين , وهو طرد من حياض الملة الوطنية عند طرف , ومن حياض الملة الدينية في نظر الطرف الآخر.
هذا التسميم للاجواء لم يقتصر اثره علي ملاحقة اصحاب الراي وممارسة مختلف الضغوط عليهم لتخييرهم بين الانحياز المطلق او الصمت التام , وانما دفع ذلك بعض الذين يحترمون انفسهم ويؤثرون البعد عن العراك ومظان التجريح الي العزوف عن الكلام و الاعتصام بالصمت. اعرف نفرا من هؤلاء ممن باتوا يرفضون الظهور في وسائل الاعلام اعتزازا بكرامتهم وحتي لا يصبحون هدفا لحملات ' الردح ' التي تحفل بها المنابر المختلفة , من جانب عناصر الشتامين الذين اصبحوا يوزعون بجراة مدهشة صكوك الوطنية و الغفران علي الموالين , ويطلقون احكام الاعدام و التخوين علي المخالفين.
للاسف , فان مسيرة الاستقطاب تتحرك من سيئ الي اسوا. وحالة الاحتراب السياسي لم تعد تكتفي بقطع الجسور واقامة الاسوار , وانما عمد البعض الي احاطتها بسياج من البغض و الكراهية جعلنا نياس من احتمالات بزوغ الرشد واستعادة الوعي في الاجل المنظور. حتي اننا بعدما كنا نري ضوءا في نهاية النفق اصبحنا نتلمس النفق في نهاية الضوء !
هل يعقل ان تكون اللوثة قد اصابت العقل الجمعي المصري الي تلك الدرجة ؟
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق