فهمي هويدي يكتب : السكوت أيضا جريمة


يظل التعذيب نقطة سوداء في سجل اي نظام , فما بالك اذا كان ذلك النظام قد جاء عقب ثورة اسقطت رئيسا مستبدا واطاحت بدولته البوليسية التي مارست القمع بحق المجتمع طوال ثلاثين عاما علي الاقل , سادت خلالها انظمة الطوارئ التي جعلت الشرطة فوق القانون وفوق الشعب , وحين يري الباحثون ان التعذيب كان قاعدة من قبل الشرطة قبل الثورة لكنه اصبح استثناء بعدها فان ذلك لا يلغي الجريمة ولكنه يضيق من نطاقها , ويظل الاختلاف بين الوضعين محصورا في اطار الدرجة وليس النوع. ان شئت فقل ان ذلك لا يبرئ النظام ولكنه يبقيه في نطاق الادانة وان بدرجة اقل. كان يظل الفعل مجرما ولكنه يصبح جناية صغري بدلامن ان يبقي جناية كبري.

لذلك فانني اجد من المبالغة القول بان الوضع بعد الثورة لم يختلف عنه قبلها , لان الاختلاف قائم لا ريب , ليس فقط في حجم الجريمة ونطاقها , ولكنه اشد وضوحا في تعامل المجتمع مع التعذيب ومع الشرطة. حيث لا يستطيع احد ان ينكر ان المجتمع الذي كسر جدار الخوف اصبح اكثر جراة في التصدي لمثل تلك الظواهر السلبية , ومن ثم اكثر اصرارا علي فضحها وتصويبها وطي صفحتها. وكما ان الثورة اسقطت الفرعون وما عادت تسمح باستيلاد فرعون جديد , فانها ايضا اغلقت الابواب دون امكانية العودة الي الدولة البوليسية مرة اخري , وقد دفعت الثمن مقدما من دماء شهدائها لكي تحسم المسالة وتقطع الطريق علي احتمالات اعادة عجلة التاريخ الي الوراء.

السؤال الآخر الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو : هل التعذيب سياسة دولة , ام سياسة وزارة , ام سلوك لعناصر الاجهزة الامنية التي تربت اجيالها في ظل الطوارئ واطلقت يدها طوال ثلاثين عاما في الاعتداء علي حريات الناس وكراماتهم واعراضهم؟

اجد صعوبة في الاجابة عن السؤال , لان التعذيب في كل احواله يظل جريمة تحاسب عليها السلطة كلها , من رئيس الدولة الي اصغر ضابط او امين شرطة في الاجهزة الامنية. وحتي اذا كان رئيس الدولة لم يامر بالتعذيب فان احدا لا يستطيع ان يدعي انه لم يسمع به , ومن ثم فبوسعه ان يعلن بوضوح موقفا رافضا له , وان يدعو المؤسسات المعنية الي التصدي للظاهرة بكل السبل , سواء تمثلت في تعديلات القانون او اعادة هيكلة اجهزة الشرطة , او محاسبة المسئولين عن التعذيب. الا ان شيئا من ذلك لم يحدث حتي الآن , حيث لم نشهد موقفا سياسيا حازما ضد استمرار التعذيب , ولسنا علي ثقة من ان هيكلة الشرطة حققت المراد منها رغم الجهود التي بذلت علي ذلك الصعيد. كما ان الذين اتهموا بممارسة التعذيب برات المحاكم اغلبيتهم الساحقة , حتي مجلس الشوري لم نلحظ منه اهتماما بالموضوع من جانبه , رغم ان عددا غير قليل من اعضائه مروا بالسجون و المعتقلات وذاقوا مرارتها , واشك في انهم نسوا خبراتهم تلك خلال السنتين الاخيرتين.

ما سبق يجلعني اتفق مع ما ذهبت اليه الوثائق التي سبقت الاشارة اليها , و التي حملت السلطة بالمسئولية عن استمرار ظاهرة التعذيب , استنادا الي انها حتي اذا لم تامر به فانها لم تعمل علي ايقافه ولم تعلن موقفا صريحا يدينه ويستنكره.

ما العمل اذن؟ توفر وثائق المنظمات الحقوقية اجابات عدة عن السؤال , حيث تضمنت مقترحات لتعديل بعض مواد قانون العقوبات ' 7 مواد علي وجه التحديد ' خصوصا تلك التي تعرف جريمة التعذيب , لان النصوص الحالية تضيق من نطاق ذلك التعريف ولا تتفق مع الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب التي صدقت عليها مصر , وثمة مقترحات اخري لتعديل القوانين المنظمة لاستعمال القوة و السلاح من قبل رجال الشرطة. كما تضمنت الوثائق مقترحات لاعادة بناء الشرطة علي نحو يجعلها في خدمة المجتمع حقا , ومقترحات اخري حول ضمان استقلال النيابة العامة , و الفصل بين سلطة الاتهام وسلطة التحقيق , بحيث تحال سلطة التحقيق لقضاة مختصين بها مع الاحتفاظ للنيابة بسلطة الاتهام فقط.

الخلاصة ان بين ايدينا ثروة من المقترحات التي تحاول ازالة تلك وصمة التعذيب من جبين مصر , وهي في انتظار من يلتفت اليها ويستخلص منها علاج المشكلة , التي يعد السكوت عليها جريمة لا تختلف كثيرا عن جريمة الفاعلين. ناهيك عن ان الساكتين لا عذر لهم اذا طال صمتهم. واذا فعلوا ذلك فاننا نعذر اذا ما جهنا اليهم اصابع الاتهام ايضا , باعتبار ان السكوت يمكن ان يكون من علامات الرضا.

ليست هناك تعليقات :