عن أوهام اسقاط السلطة الاسلامية المنتخبة كتب خالد صلاح


كتب خالد صلاح الصحفي الليبرالي المحسوب على المعارضة ... فكرت كثيرا قبل ان اكتب هذه الكلمات , اذ ان الاستقطاب الحاد الذي تعيشه مصر الآن لم يعد يعترف بان يكون لاي صاحب راي فرصة للبحث عن حدود الاتفاق و الاختلاف بين القوي السياسية المتخاصمة , صار المطلوب الآن ان تكون اما ' مع ' واما ' ضد ' في كل شيء وفي اي شيء , ولا سبيل لان تتفق في بعض القضايا وتختلف في اخري , ولا مجال لان تختلف مع تيار سياسي في قضايا فكرية او اقتصادية او سياسية ثم تتفق معه في اولويات وطنية اخري ضرورية وشديدة الالحاح , المناخ الآن يحفز علي الانقسام ويمجد الروح الثارية ويميل الي منطق المعسكر و القبيلة و الطائفة ' اسلاميون كانوا او ليبراليون ' ولا تتحمس القوي الفاعلة في بلادنا الآن او حتي تتعاطف مع المنطق الداعي للتفاهم و الوصول الي حلول وسط لتكون مصر ومستقبلها في المرتبة الاولي , لا ان تكون الاجندات الخاصة و المصالح الحزبية مقدمة علي المصالح الوطنية.

ورغم هذا الشتات و العبث في التصنيف او التصنيف المضاد فانه لا يروق لي ان التزم الصمت في قضية عاجلة تتعلق بالطريقة التي تفكر بها بعض القوي المدنية في صراعها السياسي مع التيار الاسلامي سواء الجناح المستقر في السلطة الآن او الجناح الذي لا يزال يحلم بها في المستقبل , وقد يؤسفني ان بعض القوي المدنية في مصر تعيش خرافة نادرة ومزعجة ومحبطة اذ تتوهم في نفسها القدرة علي الاطاحة بالتيار الاسلامي من السلطة واسقاط النظام المؤسس علي انتخابات حرة من خلال استدعاء النموذج الثوري الذي اسقط نظام مبارك في يناير 2011 , عبر التعبئة و الحشد الشعبي و المظاهرات الغاضبة وحدها , وتستثمر بعض هذه القوي الاقتراب من الذكري الثانية لثورة يناير لتؤهل جماهيرها لمواجهة شعبية جديدة بين الشارع و السلطة , وبين المعتصمين في الميدان وراس النظام من جديد.

هذا التصور بان بعض القوي المدنية قادرة علي استعادة نموذج اسقاط النظام علي النحو الذي جري مع نظام مبارك يدفعني الي الشك في القدرات السياسية و المعرفة التاريخية لمن يقودون هذه الدعوة باسقاط النظام من الشارع , صحيح انني من موقعي المهني اخاصم بعضا من القرارات الصادرة عن الرئاسة واخاصم الكثير من المواقف السياسية و الاعلامية لجماعة الاخوان , واعارض النهج المخالف لاخلاق الاسلام الذي يتخذه بعض دعاة الفضائيات , واخشي علي مستقبل مصر من ان يكون خاضعا لقوة واحدة , ايا كانت هذه القوة , لكن الصحيح ايضا انني لا استطيع ان اتفهم ان نبني مصر علي اساس الحشد و التعبئة خارج صناديق الانتخابات الي الابد , ولا يمكنني ان اتعاطف مع هذا المفهوم الضيق الذي يتوهم فيه البعض القدرة علي اطاحة ' الايديولوجيا الاسلامية السياسية ' بهذه السهولة , بل وبهذه السذاجة.

انت اذن لا تعرف معني الايديولجية الدينية في هذه البلاد , ولا تفهم تاريخ التيار السياسي الاسلامي , فكيف لا يمكنك قراءة حصاد هذه السنوات الطويلة التي عجزت فيها انظمة سياسية قمعية من ان تضرب هذا التيار او تحاصر شعبيته في الشارع او وجوده بين الناس , كل هذا البطش الامني و العسكري و السياسي قبل وبعد ثورة يوليو 1952 , وكل هذه المحاكمات العسكرية و الاعتقالات و المطاردات و الضربات الامنية لم تفلح في حصار اي من الجماعات الاسلامية الوسطية منها او المتشددة , كان اليقين بين قطاعات عريضة في الشارع ان حلم العدالة و التقدم و الرفاهية و الكرامة لا يمكن ان يتاتي الا عبر تطبيق صحيح الاسلام , ومن ثم كان هذا التيار يزداد قوة رغم البطش , وكانت الانظمة الباطشة تزداد ضعفا دون ان تؤسس لرؤية فكرية ' اسلامية معاصرة ' تواجه بها المشروع الذي يحمله التيار الديني علي تنوعه واختلافه.

ومن ثم فان الحديث هنا عن اسقاط التيار الاسلامي بالكامل , او الاطاحة به خارج منظومة السلطة كلية او قهره الي الحد الذي يجبر فيه علي تقديم ' تنازلات ايديولوجية مؤلمة ' ليس سوي قفزة نحو الوهم , وسقوط في محظور تاريخي وسياسي وفكري لن يسمن او يغني من جوع.

هذا الوهم خارج عن حدود التصورات المنطقية , ويضع البلاد علي حافة خطر جامح غير مامون العواقب , ويؤسس للمنطق الانقلابي اكثر مما يدعم ويعزز التداول السلمي للسلطة , وهذه الخرافة بان الاسلام السياسي يمكن ان يسقط عبر المظاهرات و العنف ليس سوي مغامرة ساذجة لهواة لا يجيدون قراءة التاريخ وليس لديهم حسابات حقيقية لما تعنيه الفوضي الشاملة , او الاقصاء المؤسس علي العنف , او الانقلاب المبني علي التعبئة العامة وتعطيل البلاد.

لا يعني هذا ان ننصاع طوعا لاي نوع من الاستبداد الذي تميل اليه بعض القوي الدينية , ولا يجب ان تفهم هنا ان القوي المدنية عليها ان ترفع الراية البيضاء في مواجهة تيار واحد , لا علي العكس تماما , لكن المعني هو ان ندرس ما نحن فيه بعناية , ونفهم مفردات التكوين الثقافي و السياسي و الحضاري للمجتمع المصري , فما نريده الآن هو ثورة ثقافية حقيقية تعيد بناء المفاهيم الصحيحة لهذا الدين , وترسخ مكانة الدين في المجتمع وفي العمل السياسي علي اسس حضارية لا تخاصم الحداثة ولا تنزع الي العنف ولا تحتكر سلطان الاخلاق وفق تفاسير حزبية ضيقة.

والمعني ايضا ان يتاسس هذا النضال المدني علي اساس يحترم المنطق الديمقراطي في المواجهة , فالاخوان المسلمون التزموا البعد عن العنف علي الاقل طوال السنوات الثلاثين لحكم مبارك , وتفرغوا للعب بنفس الآليات الديمقراطية التي اقرها الدستور واحترمها العالم , ومن ثم حصدوا نتائج هذه السنوات عندما صارت الساحة مفتوحة لتداول السلطة عبر الصناديق الانتخابية , ولا اري بديلا امام القوي المدنية سوي ادراك هذه الحقائق علي ارض الواقع , واعادة بناء حساباتها في المواجهة نحو دولة حضارية من خلال العمل المباشر في الشارع اولا , واعادة بناء خطابها السياسي لاستيعاب المرحلة الجديدة التي تعيشها مصر , وعدم وضع كل الاسلاميين في سلة واحدة لكي تتمكن من بناء خريطة لتحالفات حقيقية مع التيارات الاكثر وسطية , و الاقرب فهما لما نحلم به جميعا من بناء دولة عادلة تحترم القانون وتتوجه نحو الحداثة دون ان تصطدم مع قيم هذه الامة , تلك القيم التي لم يقهرها حاكم , ولم يبطش بها العسكر , او تنزعها من القلوب كل التجارب الاستعمارية في بلادنا.

لنحتفل بثورة يناير اذن في موعدها الخالد , ولنسحب فتيل الازمة المرتقبة من الشارع في بلادنا , ونعيد ترتيب اولوياتنا علي هذا النحو ووفق هذا الفهم.
والله اعلم.

مصر من وراء القصد.

ليست هناك تعليقات :