' 1 '
علي الاقل فقد كانت تلك رسالة بداية العام الثالث للثورة. التي اقنعتنا بان اوان الاقلاع الي المستقبل لم يحن بعد , واننا لسنا جاهزين للانخراط في تلك الرحلة. بل نبهتنا الي اننا اذا تطلعنا في مرآة الاسبوع الاول من السنة الثالثة للثورة وتفرسنا في وجوهنا جيدا. فسوف نكتشف اننا يجب ان نعيد النظر في هياتنا في ادائنا وخطابنا لكي نستوفي شروط تاهيل الحاضر للالتحاق بالمستقبل. وهذا منطوق يحتاج الي تحرير وتفسير.
لقد اسدل ستار الاسبوع الاول علي مشهد الرجل الذي سحلته الشرطة عاريا. وهو ما صدمنا واثار اشمئزازنا واعاد الي اذهاننا صورة زمن ظننا اننا تجاوزناه. حدث ذلك وسط حالة من الغضب و الانفلات الذي وضع مصر علي حافة الفوضي , الامر الذي دفع وزيري الدفاع و الداخلية الي التحذير من احتمالات انهيار الدولة , اذا استمرت الاوضاع علي ذلك النحو.
وازاء ذلك فان جوقة النائحين اطلقت فاصلا جديدا من العويل و الولولة نعت فيه الثورة وصبت اللعنات علي السلطة ومن لف لفها. ليس ذلك فحسب , وانما وجدنا ابواقا عدة في بعض الاقطار العربية هللت لما جري , وحذرت من مغبة المصير البائس الذي حل بام الدنيا حين اختارت طريق الثورة , في حين اصطنعت دموع الحزن و الاسي لما اصاب ' الشقيقة الكبري ' !
جميعهم النائحون و الشامتون اصروا علي قراءة خبر مصر في صفحة الوفيات ورفضوا ان يطالعوه في صفحة الحوادث. فراوا مصر وقد لفظت ثورتها انفاسها بعدما صرعتها النوازل , ولم يروا مصر العليلة التي لم تتعاف بعد من آثار سنوات التجريف الذي احدثته ثلاثة عقود من القهر و الفساد.
' 2 '
لقد تحدث كثيرون عن سقوط راس النظام واستمرار النظام ذاته , وكانوا محقين في ذلك لاريب , تحدثوا ايضا عن استشراء الفساد وانهيار الخدمات واهتمام النظام السابق بالطبقات العليا التي نهبت البلد , وتجاهله للطبقات الدنيا صاحبة البلد. وكان ذلك تقييما صحيحا لا يماري فيه احد. لكن البصمات التي خلفها النظام السابق علي الحياة السياسية و الثقافية لم تاخذ حقها من الرصد و التحليل , رغم انها وثيقة الصلة بما يجري في الساحة السياسية المصرية الآن , ذلك ان احتكار السلطة وتاميم الحياة السياسية طيلة تلك الفترة لم يؤد فقط الي موت السياسة واصابة التيارات السياسية بالاعاقة , وانما ادي ايضا الي تشويه الطبقة السياسية ذاتها. فلم يتح لها ان تنضج ويستقيم عودها , ولا سمح لها بان تتحرك بعيدا عن اعين السلطة واجهزة الامن ' كل نشاط للاحزاب خارج مقارها كان يحتاج الي موافقة مسبقة من جانب اجهزة الامن بمقتضي القانون ' . في الوقت ذاته فان احتكار السلطة ادي الي اقصاء كل العناصر المستقلة ناهيك عن المعارضة. وكانت نتيجة ذلك ان الناشطين السياسيين لم يتح لهم التواصل مع المجتمع , بل لم يمكنوا من التواصل بين بعضهم البعض , فلا توافرت لهم المعرفة او الثقة الي جانب ان التباعد فيما بينهم فتح الباب واسعا للحساسية واساءة الظن ببعضهم البعض.
لا يقل سوءا عما سبق ان الجماعات السياسية التي غيبت عن الممارسة و المشاركة في السلطة , لم تمكن من بلورة رؤية او مشروع بديل في تلك الفترة , حيث لم يخطر علي بالها انها يمكن ان تشكل بديلا عن السلطة , وبسبب الاقصاء فانها لم تكتسب خبرة في ادارة الدولة. وحين حدث الزلزال الذي اسقط النظام انكشفت كل تلك العورات , وواجهت الطبقة السياسية بمختلف مكوناتها اختبارا لم تتوقعه ولم تكن مؤهلة للنجاح فيه.
' 3 '
سئلت اكثر من مرة : هل اصيبت مصر بالعقم , ولماذا لم تظهر فيها بعد الثورة قيادة كاريزمية تحظي بالاجماع الوطني؟
رجوت استبعاد مسالة ' الكاريزما ' بمعني القبول العام. لانها هبة من الله لا تصنع , ومن ثم فهي تعتمد علي المصادفة التي يتعذر التعويل عليها , لانها قد تتحقق في زمن وقد تغيب لعدة ازمنة. وقلت ان القيادات التي تحظي بالاجماع الوطني , بعضه او كله. لا تظهر الا من خلال الممارسة الديمقراطية. ذلك ان اقامة الاحزاب و المجالس النيابية و المحلية وكذلك تشكيل النقابات ومراكز البحوث وتوفير حرية الحركة و التعبير , هذه العوامل تشكل الاوعية او المختبرات التي تظهر لنا قدرات الاشخاص وكفاءاتهم. وفي غيبة الممارسة الديمقراطية التي تقمع فيها القوي السياسية وتحرم من اية مشاركة ذات قيمة , في حين يطلب منها ان تتحول الي مجرد ' ديكور ' للتجمل السياسي , فان فكرة ظهور القيادات البديلة تصبح منعدمة. علما بان تجريف التربة وتصحيرها لا يتيح لاي نبت طبيعي ان ينمو فيها , وانما تظل التربة مؤهلة فقط لنمو الشوك و الصبار.
هذا التحليل اذا قمنا بتنزيله علي الارض فهو يفسر لنا لماذا كانت الثورة جسما بلا راس. كما ينبهنا الي ان الحياة السياسية في مصر بعد الثورة تكاد تبدا من الصفر او من شيء قريب منه. فالثورة كان لديها مشروع اسقاط النظام السابق وهدمه , ولم يكن لديها مشروع لبناء النظام البديل. و الثوار لم يحركهم انتماؤهم السياسي ولم تدفع بهم قيادة او زعامة من اي نوع , وانما حركهم الدافع الوطني وانتفاضهم علي الظلم و الفساد. وحين وصفها اكثر من باحث بانها ثورة اسلامية في لقاء مع بعض الباحثين في احدي جامعات طهران , تحفظت علي ذلك الوصف وقلت انها اقرب الي الانتفاضة الفلسطينية التي لا يستطيع احد ان يدعي انها انتفاضة اسلامية.
الذي لا يقل اهمية عما سبق ان الذين تصدروا الواجهات بعد الثورة وتحدثت عنهم وسائل الاعلام باعتبارهم ' قيادات ' لم تفوضهم الثورة للتحدث باسمها , وبالتالي فانهم لا يمثلون سوي انفسهم , كما انهم كانوا بدورهم بلا مشروع ولا خبرة في ادارة الدولة من ناحية ثانية. وغاية ما يمكن ان يقال بحقهم انهم خرجوا من عباءة النظام السابق و التحقوا بالحالة الثورية لكنهم ليسوا افراز الآلة الديمقراطية. لذلك فان اي قصور او تشوه يظهر في ادائهم وخبراتهم ينبغي ان ينسب الي تاثير تلك الخلفية.
ثمة ملاحظة جانبية ينبغي التنويه اليها في هذا السياق. وهي اننا نتحدث عن الجماعات السياسية المصرية وقياداتها وكانهم وحدهم المسئولون عما يجري في البلد هذه الايام. وهذا تقدير غير دقيق , لان اي عاقل لا يستطيع ان يتصور ان الاصابع الخارجية اختفت من مصر وان اللاعبين المحليين وحدهم الذين يحركون الاحداث فيها. ذلك ان اصابع الامريكيين و الاسرائيليين وغيرهم من الاطراف و القوي التي ظلت ترتع في مصر طوال الثلاثين سنة الماضية علي الاقل , لا يمكن ان تكون قد استقالت من مهمتها ووقفت متفرجة علي احداثها بعد الثورة. لان المنطق الطبيعي في هذه الحالة يدعوهم الي مضاعفة نشاطهم فيما يعتبرونه دفاعا عن مصالحهم , بعدما اسقطت الثورة حليفهم الاستراتيجي وجاءت بعناصر اخري يفترض انها لا تكن ودا لهم. لسنا بحاجة الي وقائع محددة في هذا الصدد , لكنني انبه الي جانب في المشهد مسكوت عليه وتكاد تعتبره بعض التحليلات غير موجود لمجرد انه غير مرئي.
' 4 '
تشوهات الطبقة السياسية تفسر لنا لماذا غابت الرؤية عن الجميع , ولماذا صارت خياراتنا بين سيئ واسوا. ولماذا اصبح مشروع المعارضة هو تحدي الرئيس محمد مرسي واسقاط نظامه وليس الانتصار لاهداف الثورة و الاحتشاد لانجاحها؟ ولماذا تحولت بعض وسائل الاعلام الي منابر للتحريض علي الاقصاء و العنف , ولماذا راينا في الواجهات وعلي المنصات قامات اصغر كثيرا من قامة وحلم الثورة وقيادات حضورها يقتصر علي شاشات التليفزيون و الصور الصحفية.
ذلك كله نفهمه ويمكن ان نحتمله لبعض الوقت , الي حين تدور الآلة الديمقراطية ويتاح لنا من خلال الاداء وعبر الصناديق , ان نتعرف علي القدرات و الاحجام و الاوزان.
ولعلي لا ابالغ اذا قلت ان مثل تلك التشوهات تعد امرا مفهوما وطبيعيا في مراحل التحول و الانتقال من نظام سياسي الي نظام آخر نقيض له. لكن الذي يمكن احتماله من جانب المعارضة , يصعب قبوله واحتماله من جانب رئاسة الدولة. ذلك ان موقع الرئاسة يفرض عليها ان تضبط المسيرة وتوضح الرؤية وتحدد للجميع الهدف البعيد منه و القريب. فربان السفينة ليس كاي عنصر آخر فيها , باعتبار ان اي خطا من جانبه يعرضها للجنوح او الغرق.
للاسف فان الرئيس محمد مرسي لم يخاطبنا في كل ذلك. فلا عرفنا خط سيره , ولا اخبرنا الي اين هو ذاهب بنا. الامر الذي اعطانا انطباعا بانه يسير علي خط البيروقراطية المصرية العريقة , ببطء حركتها وتقليدية اهدافها , واكتراثها بالادارة باكثر من اكتراثها بالناس.
ان كثيرين يتحدثون عن اخونة الدولة , الذي هو مصطلح ملتبس , لان العبرة ليست بما اذا لجات ادارته للاستعانة بالاخوان في بعض المواقع , وانما الاهم هو ما اذا كان هؤلاء من اهل الكفاءة و الخبرة , ام انهم من اهل الثقة فقط. ولان اكثر هؤلاء بغير خبرة فما حدث انهم تحولوا الي ادوات في ايدي البيروقراطية العريقة , الامر الذي انتقل بشعار اخونة الدولة الي مرحلة عبثية يمكن ان نطلق عليها ' دولنة الاخوان ' .
لا نستطيع ان ناخذ علي محمل الجد شعار اسقاط النظام الذي يردده البعض كي يقودنا الي المجهول. وقد يسلمنا الي الخيار الاتعس الذي تتجسد فيه كل العيوب و التشوهات التي سبق ذكرها. هذا اذا قبلنا بالمنطق المعوج الذي يدعونا الي اسقاط الرئيس بعد انتخابه بسبعة اشهر.
لكننا نري جدية واهمية في ان يخرج الدكتور مرسي عن صمته ليحدث الشعب برؤيته وتصوره للحاضر و المستقبل , بعدما تعكرت الاجواء وتزاحمت السحب الداكنة في الافق. واذا فعلها فانه سيحدث ثغرة في جدار الصمت الذي يحتمي به , وسيعطينا املا في المستقبل يسكت الاصوات المطالبة بالخيار الاتعس. لقد ارتضينا الرئيس وصوتنا لصالحه لاسباب مفهومة , ولكننا لم نلحظ انه ادرك اهمية التواصل معنا واسترضائنا. علما بان احلامنا تواضعت في الوقت الراهن , حتي صار املنا الا ننتقل الي الخيار الاسوا و الاتعس ليكون لكل حادث حديث بعد ذلك.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق