' 1 '
لم اصدق عيناي حين وقعت في ذلك الصباح علي خبر يقول ان مجموعة من الناشطين اطلقوا مبادرة عنوانها ' وطن بلا تعذيب ' , لانني تصورت ان هذا موضوع حسم قبل سنتين , منذ اليوم الاول للثورة.
وقلت ان ثمة اهدافا للثورة تحتاج الي وقت طويل لتحقيق ' العدالة الاجتماعية مثلا ' , اما مسالة التعذيب , وغيرها من الامور التي تتعلق بالكرامة الانسانية. فانها من الامور التي يفترض ان تتوقف علي الفور. الا ان الشواهد دلت علي ان الامر ليس بهذه السهولة. لان تقارير التعذيب التي توالت خلال الآونة الاخيرة اتفقت علي ان الظاهرة لا تزال مستمرة , وان مدرسة التعذيب لا تزال تمارس نشاطها , خصوصا في الاماكن البعيدة عن الاعين ' في معسكرات الامن المركزي مثلا ' .
علي الاقل فهذا ما سجلته ثلاثة مراكز حقوقية معنية بالموضوع , هي مركز النديم و المبادرة المصرية للحقوق الشخصية و المنظمة المصرية لحقوق الانسان.
وقد تابع كثيرون في الاسبوع الماضي علي شاشات التلفزيون حلقة برنامج الزميل يسري فودة , التي خصصها لفضح ممارسات التعذيب التي تتم علي ايدي عناصر الاجهزة الامنية , التي لا تزال تعيش زمن واساليب نظام مبارك و العادلي.
لن اختلف مع من يقول ان ثمة اختلافا في نطاق التعذيب في العهدين , فهو اذا كان قاعدة قبل الثورة. فانه اصبح استثناء بعدها.
وهذا حق لا ريب , يرد عليه باننا لم نكن غاضبين علي حجم التعذيب ومداه , ولكننا كنا ومازلنا نرفضه من حيث المبدا. فقليله مرفوض ومستهجن كما ان كثيره كذلك.
ذلك ان تعذيب اي مواطن هو اهانة لكل المواطنين , وقد سبق ان قلت انه قياسا علي النص القرآني الذي يقرر ان من قتل نفسا بغير حق فكانما قتل الناس جميعا , باعتباره عدوانا علي الحق في الحياة , فلنا ان نقول نفس الشيء بالنسبة لمن عذب انسانا , لان ذلك يشكل عدوانا علي الحق في الكرامة , الذي كفله الله سبحانه لكل بني البشر ' ولقد كرمنا بني آدم ' .
ايا كان حجم التعذيب الحاصل , فمجرد استمراره بعد سنتين من قيام الثورة يعد امرا مشينا يشوه صفحتها , ويؤكد ان سياسات النظام القديم واساليبه لم تتغير في ذلك القطاع المهم.
وهو ما يثير سيلا من الاسئلة , بعضها يتعلق بتجذر تلك السياسات وصعوبة اقتلاعها ,
وبعضها يتعلق بموقف قيادات الاجهزة الامنية ومدي استعدادهم لتغير تلك السياسات.
ومن ثم مدي تجاوبهم مع الثورة التي قلبت نظاما كانت تلك الاجهزة سنده الحقيقي وسلاحه في مواجهة المجتمع.
وهناك سؤال مهم آخر حول قدرة الرئيس علي اعادة هيكلة تلك الاجهزة لتصبح اكثر تجاوبا و التزاما بقيمة النظام الديمقراطي الجديد.
وهذه نقطة دقيقة وحساسة تحتاج الي وقفة خاصة.
' 2 '
استشهد هنا بما قاله الرئيس محمد مرسي يوم السبت الماضي ' 2/22 ' عن الصعوبات الجمة التي تعترض عملية اعادة بناء المؤسسات في مصر وقوله ان دونها عقبات جسام يتعين التعامل معها , ولست متاكدا من انه يعني الاجهزة الامنية تحديدا , ام انه يتحدث عن موقف الجهاز البيروقراطي العتيد في مصر.
لكنني اسمح لنفسي ان اقول بان استمرار النظام السابق لثلاثين عاما متصلة , مكنه من ان يترك بصمات قوية علي ذلك الجهاز , ودلت تجربة ما بعد الثورة ان تلك البصمات اعمق مما كان متصورا , كما ان امتداداته واصابعه لم يكن من السهل بترها بمجرد سقوط راس النظام. وهذه الامتدادات ليست كامنة فحسب , ولكنها متحركة ايضا.
وغني عن البيان ان حركتها لا تصب في صالح تاسيس النظام الجديد , وانما العكس هو الصحيح لان القرائن المتوافرة دلت علي ان تلك الاصابع الموزعة علي بعض اجهزة الدولة المهمة عملت علي تعويق المسيرة وليس الاسهام في انطلاقها.
هذه نقطة مهمة وحساسة , ينبغي ان يشار اليها بقدر ما ينبغي عدم التفصيل فيها لاسباب ارجو ان تكون مفهومة.
وهذه المعادلة تسوغ لي ان اكتفي بالاشارة الي ان اطرافا في بعض اجهزة الدولة تبنت مواقف وثبت ضلوعها في ممارسات مناهضة للنظام الجديد.
تشهد بذلك قصة الضابط رفيع الرتبة الذي يعمل في احد الاجهزة السيادية والقي القبض عليه في مظاهرات الاسكندرية.
كما تبين ان هناك اختراقات غير محمودة لبعض تلك الاجهزة لم توفر شعورا كافيا بالاطمئنان الي تمام ولائها.
وهذه الملابسات تستدعي الي اذهاننا فكرة ' الدولة العميقة ' التي عرفتها تركيا , ولا تزال حكومة حزب العدالة و التنمية منذ عشر سنوات تحاول تتبع خيوطها وكشف اصابعها المبثوثة في مفاصل الدولة واجهزتها الحساسة.
ذلك ان خبرة الاشهر التي خلت و الممارسات التي تمت خلالها اكدت بما لا يدع مجالا للشك وجود ركائز للدولة العميقة في مصر , جمعت اشتات الذين اضيروا من قيام الثورة وخصوم التوجه الاسلامي.
و هؤلاء خليط من رجال الاجهزة الامنية واعضاء الحزب الوطني الذي هيمن طوال عهد مبارك الذين تحولوا الي مراكز قوة في تلك المرحلة , فضلا عن بعض رجال الاعمال المحسوبين علي ذلك النظام , اضافة الي شخصيات نافذة في عالم البلطجة , و ثمة لغط مثار حول مصادر تمويل الناشطين في ذلك المجال , داخلية كانت ام خارجية .
' 3 '
قبل اسابيع قليلة نشرت احدي الصحف ان الدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء سمح لرجال الشرطة ان يستخدموا الرصاص الحي ضد المتظاهرين.
وفوجئ الرجل بذلك لان الخبر كان مكذوبا من اساسه , فقدم بلاغا الي النيابة العامة ضد الجريدة طالبا فيه التحقيق في ادعائها.
وقال لي انه استغرب ليس فقط لاقدام الجريدة علي اختلاق الخبر , ولكن لان بلاغه لم يتم التحقيق فيه , الامر الذي دفعه الي الاتصال بوزير العدل ليستفهم منه عن سبب تجاهل بلاغه.
نفس الشيء حدث مع وزير التنمية المحلية الدكتور محمد علي بشر الذي نقلت الجريدة ذاتها علي لسانه اتهامه للحكومة بانها عاجزة , ولان الكلام لم يصدر عنه , فانه قدم بلاغا مماثلا الي النيابة. لقي نفس مصير بلاغ الدكتور هشام قنديل.
هذا النوع من الاخبار المكذوبة , اصبح احد الاسلحة المستخدمة في تسميم الاجواء واشاعة البلبلة في المجتمع.
اذ منها ما يسعي الي استثارة الجيش واقحامه في الصراع السياسي و التلويح باقالة قادته وفي مقدمتهم الفريق عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع , و منها ما يتحدث عن مخططات اخونة الشرطة و الجيش , او يروج للتقارير التي تستهدف التخريب و الترويع تارة , واغتيال بعض الشخصيات تارة اخري .
و لحبك العملية فان ذلك يتم من خلال اصطياد مجهولين او ملتاثين يتبنون هذه المواقف . هذا بخلاف الشائعات عن ' قطرنة ' مصر , وبيع قناة السويس لقطر , وتسليم سيناء لحركة حماس , وغزو ايران لمصر , وقد سمعت من مسؤول بالدولة ان رئيس الجمهورية الايرانية احمدي نجاد حين جاء الي القاهرة للمشاركة في القمة الاسلامية , فانه احضر معه 70 مليون دولار محملة في حقائب وسلمها الي السفارة الايرانية بالقاهرة لاستخدامها في مخططات الغزو و الاختراق المزعومة . و لم تدهشني الشائعة بقدر ما استغربت تصديق الرجل لها , وهو المسؤول المحترم.
كنت قد رصدت تلك الوقائع في احد الاعمدة قبل عشرة ايام , وقلت انها صدي للمعارك التي خاضها اعلام مبارك , الذي ادار ظهره لما يقوم به الامريكيون و الاسرائيليون في مصر , واعتبر ان خصومته ومعركته الاستراتيجية هي ضد الاسلاميين في الداخل وضد حماس وايران وقطر في الخارج.
واردت بذلك ان انبه الي ان اعلام مبارك لا يزال حاضرا وفاعلا في مصر بعد الثورة , وان ابواقه لا تزال تواصل بثها في ذات المسارات التي حددها نظامه , الامر الذي لم يمكن للاصوات الوطنية و المستقلة من ان تعبر عن الواقع الذي استجد بعد الثورة , وفاقم المشكلة ان بعض معارضي النظام لجاوا الي تطبيع علاقاتهم مع اعلام مبارك , فاستخدموا منابره لرفع اصواتهم وتوصيل رسالتهم , وتصور بعضهم انه يدافع عن اهداف الثورة , في حين انه يتحرك في حضن الثورة المضادة.
' 4 '
ما سبق ذكره يسلط بعض الضوء علي جوانب من مخلفات النظام القديم وصعوبات اقامة النظام الجديد , ولست اشك في ان تلك الخلفية لها اثرها في تعقيد حسابات الرئيس محمد مرسي وبطء حركته وربما في تردده . و لا اعرف بالضبط الي اي مدي اثرت علي قراراته .
و في هذا الصدد فلا مفر من الاعتراف باننا لا نكاد نري في تلك القرارات ما يعبر حقا عن تطلعات الثورة , ذلك انها وباستثناء قرار حل المجلس العسكري بدت اصلاحية في عمومها , و من ذلك النوع الذي يمكن ان يصدر عن اي حكومة حسنة النية , ودونما حاجة الي ثورة تطيح براس النظام وتزلزل قواعده , وتسيل فيها دماء ويسقط شهداء كثر جراء ذلك.
ذلك كله لا يعفي الرئيس محمد مرسي وادارته من المسؤولية , لانه من الطبيعي ان تواجه الثورة تحديات داخلية وخارجية ' دولية واقليمية ' اثناء سعيها لاقامة النظام الجديد . و في هذه الحالة تقاس الكفاءة بمعيار قدرة النظام الذي افرزته الثورة علي مواجهة تلك التحديات.
و رغم ان ثمانية اشهر من حكم الرئيس محمد مرسي لا تكفي للحكم علي تجربته , الا ان خبرة الاشهر الثمانية كشفت عن ثلاث ثغرات او عورات اساسية احسب انها عوقت بدورها التقدم صوب اقامة النظام الجديد , وهذه العورات تتمثل فيما يلي :
غياب الرؤية قلة الخبرة سوء التقدير.
وبسبب غياب الرؤية وجدنا الرئاسة تمضي علي ذات الطريق الذي رسمه النظام السابق , وذلك اوضح ما يكون في السياسة الاقتصادية التي علقت الآمال علي الاقتراض من صندوق النقد الدولي وعلي دور رجال الاعمال في صناعة القرار السياسي .
و بسبب الخبرة ارتبكت عملية صناعة القرار ولم تنجح الرئاسة في مخاطبة الراي العام و التواصل معه. الامر الذي غيب الشفافية عن الكثير من ممارساتها .
وبسبب سوء التقدير انقسم الصف الوطني وفشلت مساعي التوافق مع بقية القوي السياسية , الامر الذي اضعف موقف الرئيس بل اضعف موقف الثورة كلها سواء في مواجهة فلول النظام السابق او قوي الضغط في الخارج .
الافق ليس مسدودا كما يبدو لاول وهلة. اذ لا يزال امام الرئيس مرسي مهمتان لكي يتقدم علي طريق اقامة النظام الجديد .
الاولي عاجلة تتمثل في اطلاق مبادرات تستلهم روح الثورة واهدافها خصوصا ما تعلق بتحقيق العدل الاجتماعي ومواجهة مشكلتي العشوائيات و البطالة , او ما تعلق بتطبيق الحد الادني و الاقصي للاجور , او باستصلاح الاراضي وتوزيعها علي الفلاحين -- . الخ .
اما المهمة الثانية و الآجلة فتتمثل في تفكيك مؤسسات الدولة القديمة واعادة هيكلتها , و العمل علي استثمار الطاقات و الخبرات و الامكانيات الوطنية المحلية واعتبارها قاطرة التنمية و الاستقلال الاقتصادي .
و هذه مجرد امثلة استلهمتها مما سمعته من خبراء ناقشتهم في مخارج الازمة التي تمر بها مصر , في المقدمة منهم الدكاترة حازم الببلاوي ومحمد محسوب وعماد الدين شاهين و حامد الموصلي .
و لست اشك في ان الانصات اليهم هم وامثالهم يمكن ان يثري محاولة العثور علي ضوء نهتدي به في مسعي اسقاط نظام مبارك , واجهاض الدعوة للانتحار وواد النظام الجديد .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق