وبعد قيام الثورة , ومشاركة المنتمين الي اطياف مختلفة ومتنوعة في الدفاع عنها وحراستها و السعي لتامين مسارها , بدا واضحا ان توافق هؤلاء جميعا حول افضل المسارات -- لا تبدو بشائره قريبة ولا مبشِّرة وان ممثلي هذه الفصائل و الاطياف يسعي كثير منهم الي الانفراد بتوجيه الحاضر ورسم خريطة المستقبل , وان خارطة الطريق القومية -- تخلي مواقعها يوما بعد يوم للفرقاء المتفرقين الذين يسعي كل فريق منهم الي تحويل رؤيته وخارطة الطريق التي يؤمن بها , الي خارطة تنفرد بصنع الحاضر وتحديد وحدها صورة المستقبل.
ومن هنا عاد حديث ' الحوار الوطني ' ليشغل من جديد جميع المنابر وساحات العمل , وادوات الاعلام الحكومي و الشعبي.
وكان لابد للصدام و المواجهة ان يظهرا علي سطح حياتنا الثقافية و السياسية -- واكتشف الجميع ان كثيرا من القضايا المصيرية لايزال معلقا بين اطرافه لم يحسمه هذا الجيل ولا الجيل الذي سبقه , وان الحوار الجديد حوله يوشك بدوره ان يُحدث انقساما جديدا في جسد الامة تضيع معه كثير من فرص البناء و النهضة وتحقيق التقدم.
من هنا كانت مناقشة المفردات الاساسية لادب الحوار مقدمة ضرورية لا غني عنها في المرحلة التي نعيشها من مراحل التطور المجتمعي و السياسي الذي نريده سعيا لتحقيق اهداف هذه الثورة.
ومن الغريب و المحزن ان امتنا العربية كانت منذ اكثر من عشرة قرون من اوائل الامم التي تحدث علماؤها ومثقفوها عما سموه ' ادب المناظرة ' وان في تراثنا الثقافي عديدا من المؤلفات الرائعة التي تترجم هذا الادب الحواري ' الي منهج منضبط ' هو ما نسعي من خلال هذه السطور الي تجديد الوعي بمفرداته وتجديد الالتزام بتلك المفردات من جانب النخبة المثقفة حتي تصبح مؤهلة لقيادة ثورة ثقافية موازية لا يستغني عنها العمل الثوري في شئون السياسة و الحكم.
والواقع ان كلمة ' الادب ' تحمل في ثقافتنا العربية معنيين متكاملين -- اولهما معني علمي وفني يتعلق بتفعيل الحوار وضبط منهجه -- اما المعني الثاني فهو معني اخلاقي تظهر الحاجة اليه هذه الايام ظهورا متجددا وهو المعني الذي سميناه ' امانة الكلمة ' و ' ادب الحوار ' .
ذلك ان مئات السنين في ظل نظم للحكم توشك ان تُقدس الحاكم وتعبده -- وتقهر المحكومين وتستبد بهم ثم تنفرد بتحديد مصيرهم -- هذه السنين الطويلة تجعلنا حريصين اليوم علي رفع الصوت عاليا -- داعين الي اتباع المنهج العلمي الموضوعي في تنظيم الحياة السياسية و الدستورية و المجتمعية -- وداعين كذلك الي الالتزام الصارم ' بامانة الكلمة ' التزاما اخلاقيا ينبغي ان يتحول الي جزء اساسي من اجزاء العقيدة السياسية لكل المصريين وجميع العرب و المسلمين.
وهذه السطور لم تجد سبيلها الي النشر و العلانية الا بعد ان راينا عن قرب شديد اسباب القلق و الاشفاق و الحزن في مجمل حوارنا الواسع حول قضايانا المشتركة.
ان اول اركان الحوار حول قضايا الوطن المصيرية هو ' ركن النية و القصد ' , بان يمارس جميع المشاركين في هذا الحوار ضغطا لابد منه علي نوازع الفردية واهواء الاستئثار -- وان تكون ' خارطة الطريق الوطنية ' التي يلتزم بها الجميع خارطة قومية حقيقية تعلو عند التعارض فوق خرائط الطريق التي تخدم فصيلا او فصائل محدودة من المواطنين.
ان تاخر الوصول الي حل عملي حاسم لهذا التناقض من شانه ان يعوق مسيرة الاصلاح بجميع عناصرها وان يُضعف مقاومة المجتمع كله لاخطار الهزيمة امام قوي اكثرها خارجي وبعضها تمت زراعته في غفلة منا داخل كياننا وفي علاقتنا بشركائنا في الوطن وفي مستقبله الواحد.
ان تحقيق هذا الذي اسميه ' استرداد الوعي الوطني ' رهن بالتربية و التعليم و التدريب علي عناصر ' الوعي المجتمعي الجديد ' وفي مقدمتها الاقانيم الثلاثة التي رفعتها طلائع الثوار في ايام الثورة الاولي وهي :
المشاركة السياسية للجموع الشعبية بعيدا عن الترغيب و الترهيب , ومن خلال مؤسسات مدنية تختارها القوي الشعبية.
احترام الحرية في مجالاتها المختلفة , واحاطة ممارستها بالضمانات السياسية و القانونية و التربوية التي تحولها من شعار يتصايح به الجميع الي ' ركن الاركان ' الحي و الفاعل في جنبات المجتمع كلها.
سيادة القانون الذي يعلو سلطانه علي كل سلطان و الذي يتم من خلاله تعزيز سائر الضمانات وتحقيق المساواة بين جميع افراد المجتمع , وارتفاع ' القاعدة القانونية ' فوق مصالح الفئات و الاحزاب و الجماعات -- وفوق الاهواء الفردية التي تمثل الخطر الدائم و الداهم علي الحاضر وعلي المستقبل كله.
ويبقي ان الكلمة الامينة تحتاج الي ضمان اجرائي مهم وفعال يتعلق ' بلغة الحوار ' وطريقة ادارته وهو ان تكون لغة هذا الحوار لغة تقريب وتوحيد لجميع اطرافه -- وان نودع الي غير رجعة اساليب الاقصاء و التهميش و السعي للانفراد و الاستئثار , وما يصاحب هذه اللغة من استباحة الكرامات و الاعراض , و التدني في استعمال كلمات الاهانة و التجريح , واجازة الكذب واخراج الكلمات من سياقها الي حيث تشكل اغتيالا معنويا لمن يشغلهم العطاء للمجتمع ولشركاء الثورة عن استخدام الوقت المتاح في دفاع شخصي ليسوا محتاجين اليه , ولن يتم ابدا الا بخصم ما انفق فيه من جهد ووقت من حسابات المصالح العليا لمصر كلها.
وليتنا جميعا ندرك اهمية ان اي حجة نسوقها ودليل نستند اليه لابد ان تصاحبهما علي وجوهنا ' بسمة صادقة ' هي رسول ودٍ صادق تخاطب به الآخرين ونحرص عليه -- وهي اول محفز فعال للعمل و الانجاز وانها شرط اساسي من شروط نجاح السعي للتقدم و النهضة.
اما التجهم في وجوه الآخرين , واختلاس اسباب زائفة لاستبعاد هؤلاء الآخرين من الساحة سعيا الي الانفراد بها , هذا التجهم وذلك الاستبعاد هو النذير بوقوع الشقاق و الصدام وضياع كل فرص الاصلاح.
ان كثيرا من الاقلام التي كان يرجي عطاؤها علي طريق النهضة قد حالت بينها وبين اداء هذا الدور الوطني الذي تشتد الحاجة اليه هذه الايام -- قد توزع كثير منها بين احوال ثلاثة لا ندري ايها اشد خطرا واشد عوجا :
الحال الاولي حال الخوف و الذعر من التعرض لظلم لا يملك المتعرضون له وسيلة فعالة لدفعه.
الحال الثاني حال الطمع الشديد و الاصرار علي الانفراد -- وهو طمع يشتد اغراؤه وُيحدث في المجتمع حالة خطيرة من حالات ضعف المقاومة في مواجهة الخصوم و الاعداء.
اما الحال الثالي فهو حالة الغضب الذي يحرق العقل وقد يدفع اصحابه الي اعتزال المجتمع , و التوقف عن تعزيز الانتماء اليه -- وعلاج هذه الحالة الثالثة , ان نتواصي جميعا بالتوافق الذي يقوي مسيرة الثورة و الاصلاح الذي ندعو اليه , وان نتوقف علي الفور عن تبادل الانتقاص وتبادل الاتهام.
اننا نكتب هذه السطور , وفي الحلق غُصَّة , وفي العقل قلق كبير مشروع , وفي القلب حزن لا نحب له ابدا ان يستقر او يدوم , بعد ان تعرض كثير من الشرفاء لعدوان وتنكر مؤسف من مواقع وافراد كنا نظن انه يجمعهم جميعا خندق واحد وانه يجمعنا جميعا حرص صادق علي حراسة الثورة وخدمة الشعب كل الشعب دون ان ينتظر احد من احدٍ جزاء ولا شكورا , وماذا يجدينا ان تحيط الاهواء بمساعينا , وان يتفرق جمعنا ونحن نكتفي برفع شعارات لفظية تكذبها كثير من مواقفنا واعمالنا , ومع ذلك فان من الحكمة الا يستغرقنا او يستهلك ما بقي من طاقتنا تبادل اللوم و التشكيك في النوايا وتشويه صورة جميع الآخرين , ولعل الشيء الوحيد الذي يصلح بداية فعالة لتجاوز مرحلة التشكيك و الاشتغال بعيوب الآخرين ان نتذكر مثالين يضيئان لنا اول طريق الخروج السريع من هذا النفق المسدود.
اما اولهما : فقولُ شعبي كنا في صغرنا نسمعه من اخوتنا واخواتنا ابناء الصعيد , ونصه ' بالعامية الفصحي ' : ' ما تعدش الشين , ده الشين كتير , عِد الزين ' -- وترجمته الي العربية الفصحي : ' لا تشتغل باستعراض السلبياب واسباب الاحباط , ولكن تذكر الايجابيات و الانجازات ' .
واما الثاني : فابيات من قصيدة رائعة لامير الشعراء احمد شوقي اطلقها في العشرينيات من القرن الماضي تحت ظلال ازمة سياسية ومجتمعية عظيمة الشبه بما نحن فيه هذه الايام من اختلاف يقوض وحدة النسيج الوطني ويكاد يشق المجتمع كله الي شقين متناقضين -- يقول فيها :
الام الخُلف بينكمو الاما -- وهَذي الضجةُ الكبري علاما
وفيما يكيد بعضكمو لبعض -- وتبدون العداوة و الخصاما
شببتم بينكم في القطر نارا -- علي محتله كانت سلاما
تراميتم فقال الناس قوم -- الي الخذلان امرهمو ترامي
واين الفوز لا مصر استقرت -- علي حالٍ ولا السودان داما
ثم يخاطب ' رحمه الله ' الشهيد البطل المجاهد مصطفي كامل قائلا :
شهيد الحق قم تره يتيما -- بارض ضُيعت فيها اليتامي
اقام علي الشفاه بها غريبا -- ومر علي القلوب فما اقاما
تري : ان لم تُفلح دعوتي لتحقيق التوافق و التساند , فهل تفلح دعوة امير الشعراء التي اُكررها في كل مناسبة وفي غير مناسبة.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق