تلك العبارة نفسها , اسمعها كثيرا في تلك الايام , واتذكر انني سمعتها ايضا ايام حكم المجلس العسكري , حين ادت سياساته العبثية الي دخول البلاد في ازمات طاحنة متكررة.
يريد هذا النادل , ومثله كثيرون , ان تعود ' عجلة الانتاج ' الي دورانها , وان تتم معالجة الانفلات الامني , وان ' تنفض هوجة المظاهرات واعمال العنف ' , وان يسترد ' حياته ' التي كان يعيشها في ظل حكم مبارك.
يدلي هذا النادل بصوته في الانتخابات , ويتحدث في السياسة , وينتقد الحكام و القوي السياسية الاخري , لكنه لا يريد الديمقراطية , ولا يؤمن بجدواها , بل هو ايضا لا يعتقد ان الشعب المصري يستحقها.
هذا النادل , ومثله كثيرون , من طبقات اجتماعية مختلفة , يتحدثون بالسياسة , ويدلون باصواتهم في الانتخابات , لكنهم لا يؤمنون بحقنا في ممارسة الديمقراطية , ولا في اهمية ممارستنا لها -- انهم ' يشتغلونها ' و ' يشتغلوننا ' .
ليت الامر يقتصر علي هؤلاء المواطنين الذين يعيشون علي هامش الحياة السياسية , لكن قطاعا ايضا من بين المسيسين يفعل الامر ذاته -- اي ' يشتغل الديمقراطية ' .
تعبير ' الاشتغالة ' تعبير شعبي خالص , وعبقري كعادة مثل تلك التعبيرات , ومكثف لدرجة انه من الصعب جدا ايجاد كلمة واحدة تقابله في الفصحي.
كيف ستصف هؤلاء الليبراليين و اليساريين و القوميين وخصوم التيار الاسلامي الذين يدعون الي ' اسقاط الرئيس ' في الشارع , او يباركون اقتحام القصر الجمهوري , ثم يتحدثون لاحقا عن الديمقراطية , او يشاركون في الانتخابات؟
ليس هناك ابدع من وصف ' اشتغالة ' للاجابة عن هذا السؤال.
تختلف بالطبع دعوة بعض النخب الي اجراء انتخابات رئاسية مبكرة عن تلك الدعوات الجامحة التي تريد الانقلاب علي شرعية الانتخابات , عبر اسقاط النظام.
مطلب الانتخابات الرئاسية المبكرة يعكس احتراما للعملية السياسية وتكريسا للممارسة الديمقراطية , ويقدم حلا ديمقراطيا لمراجعة نتائج الانتخابات , طالما انها لم تنتج وضعا سياسيا ناجعا ومستقرا , وهي آلية مستخدمة ومحترمة في العديد من النظم الديمقراطية.
اما المطالبة باسقاط النظام , عبر ' الفعل الثوري ' , الذي يتخذ طابع العنف احيانا , فليست سوي محاولة للانقضاض علي نتائج العملية السياسية , التي اتخذت مسارا ديمقراطيا , شاركت فيه الاطراف المعنية كلها , مهما كانت مآخذها عليه وانتقاداتها له.
لدينا ايضا اشتغالة ثالثة في هذا المشهد العبثي الذي سقطنا فيه جميعا , لكنها الاشتغالة الانكي و الافدح اثرا علي الاطلاق , لانها تصدر هذه المرة عن اصحاب السلطان , الذين اوصلتهم الديمقراطية وحدها , وليس غيرها , الي مواقعهم في سدة الحكم.
' يشتغل ' الحكام الجدد من اعضاء تيار الاسلام السياسي الديمقراطية -- و ' يشتغلون ' الشعب المصري معها.
لا يُظهر هؤلاء اي فهم للديمقراطية باعتبارها قيما وتقاليد راسخة قبل ان تكون مجرد آليات ونتائج كمية مجردة. يفهم الحكام الجدد ان نتائج الصناديق يمكن ان تخول لهم محاصرة المحاكم , وانتهاك سلطة القضاء , واختلاس الدستور , واصدار اعلانات دستورية ' همايونية ' , وخطف الدولة , وسحل الناس في الشوارع , وتقسيم الشعب , و التاليب علي الاقليات , واقصاء المعارضين , وشيطنتهم , ثم اباحة قتلهم.
يفهم الحكام الجدد ان الديمقراطية موجودة فقط لاحصاء بطاقات التصويت , التي يمكن تسويدها ب ' انابيب البوتاجاز , وزجاجات الزيت , وحملات الاتوبيسات , و الشحن الطائفي , وتسخير منابر المساجد ' , ولا يعتقدون انها تعني تداول السلطة , وانفاذ القانون , و الفصل بين السلطات , وصيانة الكرامة الانسانية , واحترام الحق في المعارضة , و القابلية للمحاسبة , واحتمال مراجعة نتائج الانتخابات , في حال افضت الي انتخاب ممثلين سياسيين عاجزين او فاشلين.
لقد وصل ' الاخوان ' و ' السلفيون ' الي مواقع الحكم عبر الممارسة الانتخابية ذات الطابع الديمقراطي , رغم ان بعضهم لم يكن يؤمن يوما بالديمقراطية , وبعضهم الآخر كان يكّفر من يقول بها او يدعو اليها. وحينما باتوا مهيمنين علي وضع الدستور , اصروا علي اضافة مادة تقول : ' يقوم النظام السياسي علي مبادئ الديمقراطية و الشوري ' , بداعي ان الديمقراطية يمكن ان تنتج وضعا لا يتفق مع الشرع كما يفهمونه ويزعمون الرغبة في تطبيقه.
انها ابشع ' اشتغالة ' للديمقراطية -- ان تستخدمها كسلم للصعود , دون ان تفهمها او تحترمها او تؤمن بها , ثم تحطم هذا السلم , وتطيح به , كي لا يستخدمه الآخرون.
' الثلاثة يشتغلونها ' -- و الديمقراطية منهم براء.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق