كم مرة ارتبت فيه وفي اسباب وجوده وكم مرة حسبته علي ' الامن ' وكم مرة اعتبرته من عناصر الخطر التي تشوه وجه الميدان وثواره؟
كم مرة دخلت معه في فصال علي سعر البطاطا واتهمته بالجشع و الاستغلال , وكم مرة بعد ان رجعت الي بيتك بعد يوم تظاهر حاشد تذكرت وجهه وفكرت كيف يتحمل جسده الهزيل كل هذا البرد وذاك البرود و الزحام ورائحة الغاز ؟
كم مرة تاملت في مقدرة هذا الطفل علي انتزاع ما يقيم الحياة من فم الموت المحلق كل لحظة علي جنبات الميدان؟
ان هذا الطفل الشهيد هو الجدير بالغضب و الحزن الحقيقي , ذلك الذي وقف يخدم كل انواع المظاهرات , وكل الوان المحتجين , يهتف مع الفئويين وغير الفئويين , ويسد جوع الغضب دون ان ياكل , ويتبني مطالب الجميع دون ان يتذكر قضيته احد , مثله مثل عمود الخيمة وحجر الرصيف ووقود التدفئة في عز البرد __ اداة من ادوات الثوار و الغاضبين وليس موضوعا رئيسيا لها.
تشتبك الجموع في الميدان , وتتصادم النخب في الاستوديوهات وهو يدفع الثمن , يدفعه فقرا وبردا وجوعا و الآن يدفع الثمن موتا. مثله مثل الارانب تموت صامتة تحت اقدام الافيال المتصارعة , فالرصاص الغادر لا يرحم ولا يفرق بين صغير خرج يبحث عن لقمة عيشه او متظاهر يزرع الميدان غضبا ليحصد بعضا من الحرية , او عابر من المكان بالصدفة ذاهبا الي عمله او عائدا منه.
ان مثل ذلك الوجه النائم في راحة الموت لا يتذكره احد الا بعد ان يرحل رحيلا تراجيديا فاجعا يلهم اقلاما كي تكتب ويشحن حناجر كي تهتف وتصرخ , لكن احدا لم يكتب عنه او يهتف من اجله وهو علي قيد الحياة.
وسواء كان هذا الصغير قد قتل برصاصة خاطئة , او متعمدة , فانه هو الشهيد الذي لا يحتاج اثبات استشهاده وجدارته باللقب اي مجهود , او ينتظر تحريات وتحقيقات ومعاينات نيابة وتقارير طب شرعي. لا ينبغي لاحد ان ' يفاصل ' في صحة استشهاده كما كان ينهكه الفصال في ثمن البطاطا.
انه الشهيد ولو لم ينشر اسمه او يتوصل اليه احد , تكفي هذه الفتحة في قلبه قلب الوطن و هذه النظرة المعاتبة في صورته الملتقطة بمشرحة زينهم. ولو لم تحدد العدالة قاتليه وتعاقبهم فلن تكون عدالة , ولو لم تسرع الدولة باعتباره شهيدا وتمنح اسرته معاش شهيد فلن تكون دولة , ولها ان تختار ما تشاء من اسماء : غابة , محرقة , معسكر موت مجاني.
هو الجدير بجنازة تليق بشهيد خالص لا شية فيه. تري كم طفلا سيقتلون بعده في هذه المعركة المجنونة ؟
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق