الرئيس التونسي محمد المنصف المرزوقي يكتب عن الحرية بعد الثورة



ثمة اعتقاد شائع عند بعض اصدقائنا الغربيين _ولو ان التصريح به جهرا قلّ منذ انطلاق الثورة العربية_ هو ان الحرية قيمة غربية بامتياز , يتم تصديرها عبر الديمقراطية , لشعوب كانت الي امد غير بعيد تجهلها او تتجاهلها.



ان القول بان الشعوب العربية تجهل او تتجاهل الحرية , كالقول بانها تجهل او تتجاهل الحاجة الي الاكل و الشرب , او الحب و الاحترام.



وراء هذا الراي , هناك ايضا جهل مركّب بامة تاريخها مسلسل من الحروب و الاضطرابات الداخلية التي لم تتوقف لحظة , وكلها رفض للاستبداد , اي طلب لحرية لم ننجح لحدّ الآن في تثبيتها , رغم كونها تحتل في مخيالنا الجماعي مكانة مركزية.



ايُّ عربي لا تسكنه الصرختان الشهيرتان , تفعلان فيه فعلهما الخفي؟



الاولي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ' متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا؟ ' , و الثانية ' كرّ وانت حر ' لعمرو بن شداد و الد عنترة , اذ يستنهض ابنه العبد الذي رفض الخروج للحرب دفاعا عن عشيرة سلبته حريته وتريد منه الدفاع عن حريتها.



صرخة عمر احتجاج واستنكار , لان الاستعباد ينفي حاجة غريزية عند الانسان , ويتصدي للمشيئة الربانية التي قررت ان البشر يولدون ويموتون احرارا. جريمتان اذن لا جريمة واحدة , يرتكبهما الاستعباد : التطاول علي طبيعة الانسان , و التطاول علي ارادة الله.



تُدخلنا صرخة و الد عنترة الي مستوي آخر لمفهوم الحرية -- هي تذكّر الابن/العبد انه ايضا ابن حر , وان كان ابنَ امَة -- انه يتارجح بين وضعيتين , وهو وحده الذي يختار اين يريد التموقع -- انه اذا اراد الحرية فلا بدّ من دفع ثمنها , لانها لا تُمنح وانما تؤخذ غلابا -- ان الثمن يتطلب وضْع الحياة نفسها علي المحكّ , والا فلا مكان الا اسفل السلم , ولا مكانة الا اوضعها , لاننا نولد ونموت في نظام اجتماعي سياسي مبني منذ الازل علي الظلم و اللامساواة.



'

الحرية حق فردي يمنحه الله لنا وينكره علينا الانسان -- حق باهظ الثمن , يبدا بالتغلب علي كل انواع الخوف , خاصة خوف الموت , ويتواصل بصراع مرير ضد كل الظالمين

'

الحرية اذن حق فردي يمنحه الله لنا وينكره علينا الانسان -- حق باهظ الثمن , يبدا بالتغلب علي كل انواع الخوف , خاصة خوف الموت , ويتواصل بصراع مرير ضد كل الظالمين -- حق يستاهل ان نموت من اجله , لانه الشرط الاساسي لاستقلالنا الذاتي ولتمتعنا بالكرامة -- حق يضمن الا نتبع احدا صاغرين , وان كل موقف او قرار ناخذه هو بمحض ارادتنا.



ما تعرضنا له لحدّ الآن هو المستوي النفسي , لكن الحرية قضية اجتماعية قبل كل شيء.



لماذا تكتسب الحرية اهميتها البالغة تلك , ومنذ القدم؟ لانها المكسب الذي يمكّن من تكديس كل المكاسب.



هي اولا مكسب شخصي لعنترة الذي يستطيع عبر التمتع بها تبوّؤ مكانة اجتماعية رفيعة , وهي ثانيا مكسب للقبيلة وعنترة سيف اضافي لا يمكّنها من زيادة سؤددها وثروتها فحسب , بل ومن المحافظة علي كيانها.



ثمة بُعد اهمّ واعمق --



عودة الي صرخة عمر -- تلك الصرخة تعبّر عن موقفٍ هو استنكار الاستعباد , وعن رايٍ بضرورة ان ينعم بالحرية من ولدتهم امهاتهم احرارا , وعن قرار انه يجب وضع حد لخلل غير مقبول.



هذا الرفض للعقلية و الممارسة القديمتين هو صدي لعقلية سيّد الاحرار الرسول الاعظم ' صلي الله عليه وسلم ' , وبداية ثورة هائلة ستؤدي الي تغييرات عميقة في تركيبة المجتمع.



انه القانون الازلي القاضي بان من يغيرون المجتمعات في العمق , سواء اكان ذلك علي الصعيد الديني او الفكري او السياسي او الاقتصادي او الاجتماعي , هم دوما اشخاص تحرروا من القوالب الفكرية ومن العادات و التقاليد التي وجدوها -- مما يعني ان الحرية اهم عوامل التغيير , و القوة الاساسية التي تدفع المجتمعات الي الامام والي الاعلي , ولولاها لبقيت مستنقعات راكدة تكرّر نفسها بثبات ممل عقيم.



ليس من باب الصدفة ان اقوي المجتمعات المعاصرة هي التي ضخّت في شرايينها هذه القوة الجبارة , وان اكثرها فقرا وتخلفا هي التي ترسف في اغلال الاستبداد.



الحرية اذن عنصر تقدّم ورقيّ للافراد وللمجتمعات علي حدّ سواء , ومن ثم فهي قوة لا تقدّر بثمن.



المشكلة ان لها كعملة النقد وجهين : وجه وضاء هو الذي ركزنا عليه , وآخر اقل اشراقا.



عودة من جديد الي عنترة -- طالما هو عبد مذعن لعبوديته فهو لا يشكّل خطرا علي احد , لانه ليس منافسا يحسب له ادني حساب في الصراع الشرس علي السلطة و الثروة و الاعتبار , و المسكين لا يملك شيئا بل لا يملك حتي نفسه. امَا وقد انتزع حريته بحدّ سيفه فانه يعود طرفا في هذا الصراع , ويمكن ان يشكل خطرا علي بقية المتنافسين وحتي علي المجتمع ككل , اذا كان صاحب شخصية قوية وطموح كبير.



كم مرة خرج فيها المستعبَد القديم علي منظومة القوة التي استعبدته , لا ليلغيها وانما ليفوضها لحسابه! كم مرة راينا الحرّ الذي تخلّص من كل خوف , لا يخدم الا مصالح مبادئه ومبادئ مصالحه!



انها نفس الظاهرة علي الصعيد الجماعي , فعندما تحدث الثورة ويتحرر الشعب من الخوف يصبح طرفا في معركة توزيع الثروة و السلطة و الاعتبار , مشكّلا خطرا لا علي الاقليات الظالمة التي سلبته حريته وكرامته فحسب , بل علي المجتمع ككل.



انظر الي ما جري ويجري في تونس ومصر وليبيا و اليمن من انفلات امني واعلامي --



ما زلنا _سنتين بعد الثورة_ نعاني من تصرفات تطال قطع الطريق وحرق مراكز الامن ومنع العمال من دخول المصانع , وسبّ الناس دون رادع في كم من صحيفة ماجورة يحركها المال القذر.



هذه الحرية الخطيرة علي الحرية نفسها هي من تبعات انتصاب الذات كمصدر للتشريع ومصدر للشرعية , ومن نتائج تصرفات قوامها المطلبية المشطّة و اللحظية , وعدم القبول بان تغيير الواقع عملية جماعية صعبة شاقة طويلة النفس , تتطلب الكثير من الصبر و الحكمة و الاعتدال.



نتيجة وضع كهذا معروفة مسبقا , خاصة اذا تفاقمت الامور بسرعة. فبعد فترة من عدم الاستقرار _تطول او تقصر_ يعود الاستبداد تحت الزغاريد , لان المجتمعات تتحمل الظلم ولا تتحمل الفوضي.



لقائل ان يقول ان ما نشاهده خاصية ثقافية -- هكذا نعود الي جلد الذات المعروف في فترة ما قبل الثورة , عندما كان البعض يصفون الشعوب العربية بانها قطعان وميتة -- الخ.



'

اذا عنّ لك انكار المحرقة او مذبحة الارمن بحجة حرية الراي , فانك ستجد نفسك امام محكمة فرنسية , لان القانون الفرنسي يعاقب علي مثل هذا الراي

'

لمن سيتهم التونسيين و المصريين و الليبيين و اليمنيين بانهم غير ناضجين حضاريا للديمقراطية , لانهم عرب يحملون ' جينات ' الاستبداد و الفوضي , ادعوهم قبل اصدار مثل هذه الاحكام الي قراءة تاريخ الشعوب التي قامت قبلنا بثوراتها , اذ يظهر ان عملية الترويض و التمكين للديمقراطية كانت طويلة وصعبة , وهي دوما مهددة , خلافا لمن يعتقدون بان التقدم و الحرية و السلام مكتسبات ازلية لبعض الشعوب , واهداف بعيدة المنال لشعوب اخري.



يمكن ايضا تفحّص الوضع الحالي للحرية في اعرق البلدان ديمقراطية عبر القوانين التي تنظمها , لنكتشف انها تعكس مخاوف الماضي و المستقبل معا.



مثلا , انت لا تتحرّك في لندن الا تحت المراقبة المستمرة لآلاف الكاميرات المزروعة في كل مكان --



اذا شاركت في مظاهرة غير مرخص لها في نيويورك , فلا تتوقع ان تُضرب بالورد --



اذا عنّ لك انكار المحرقة او مذبحة الارمن بحجة حرية الراي , فانك ستجد نفسك امام محكمة فرنسية , لان القانون الفرنسي يعاقب علي مثل هذا الراي --



يمكنك ان تقع تحت طائلة القانون في المانيا ان انخرطت في احزاب معينة معروفة بتطرفها اليميني او اليساري --



من مصلحتك ان كنت اسكندنافيا وخاصة سياسيا , ان تكون بالغ الحذر بخصوص من تشغّل؟ وهل ظروف التشغيل قانونية؟ وهل سددت ضرائبك؟ لان هناك دوما من يحصي عليك انفاسك --



لكن , لماذا البحث عن نماذج بعيدة؟ انظر قانون الطرقات --



قد لا يوجد قانون مقيّد للحرية قدره _عدا سماحه لك بان تتحرك متي تشاء والي اين تريد_ فانه قائمة طويلة من الممنوعات ومن العقوبات : ممنوع ان تسوق دون رخصة -- دون ربط الحزام -- او مخمورا -- ان تتجاوز سرعة معينة -- الخ.



ما وراء كل هذه الموانع لممارسة الحرية؟ وما دوافع مَن شرّع هذه القوانين , ونحن نعرف انه ليس عدوّا للحرية وانما هو نصير لها؟



هي محاولات لتدارك نقص او حتي غياب العنصر الاساسي في الممارسة السليمة للحرية : المسؤولية --

ان اكون مسؤولا يعني اساسا ان اكون حريصا علي عدم الاضرار بالمصالح المشروعة للآخرين اثناء سعيي لتحقيق مصالحي المشروعة -- ان اتمثّل دوما بالمقولة الشهيرة ' تنتهي حريتي اين تبدا حرية الآخرين ' .



بديهي انه لو تحلي جميع السائقين بالتصرفات المطلوبة لممارسة سليمة لحرية التنقل , لما لزم ايجاد قانون للسير اصلا -- نفس الشيء بالنسبة للقوانين التي تنظم اي تحديد لحرية التعبير و التظاهر و التنظيم.



المشكلة ان حسّ المسؤولية صِفة فردية وممارستها مجهود شخصي , ولا علاقة لهما بهذه الثقافة او تلك -- هي صفة يتحلي بها البعض ويناي عنها ويهملها آخرون , ممن لم يواكب عدّادُ النضج لديهم عدّادَ السنوات , ليبقي المجتمع يعاني من تصرفات فردية لاطفال في الثلاثين و الخمسين , وحتي لاطفال يناهزون سن الشيخوخة.



من السذاجة اذن تصور عراقة النظام الديمقراطي في بريطانيا او فرنسا كنتيجة نضج اكتسبه الافراد بطول ممارستهم للحرية , فنسبة من يتحلون بالمسؤولية ومن لا يتحلون بها , لا تتغير كثيرا من مجتمع الي آخر , تماما كما هي نسبة الاذكياء و الاغبياء.



قسّم احدهم البشر الي اربعة ' اعراق ' , و المقياس ليس لون البشرة وانما طبيعة الافعال التي تميّزهم :



_ الذين تعود افعالهم بالنفع عليهم وعلي الآخرين وهم الاذكياء.

_ الذين تعود افعالهم بالنفع عليهم وبالضرر علي الآخرين وهم الاشقياء.

_ الذين تعود افعالهم بالنفع علي الآخرين وبالضرر علي انفسهم وهم السذج.

_ الذين تعود افعالهم بالضرر علي انفسهم وعلي الآخرين وهم الاغبياء.



اذا تفحّصنا هذا التقسيم سنكتشف انه ليس لدينا الا اقلية _هم الاذكياء_ يمكن ان نتوقع منها ممارسة الحرية بالقدر الاقصي من المسؤولية. اما الاعراق الاخري فلا تنتظر منها الا الوبال , لذلك لا بدّ من برلمانات وقوانين وشرطة ومحاكم.



اضف الي هذا ان علي النظام الديمقراطي ان يتعامل مع اجيال متتابعة لا تولَد ديمقراطية , وانما يجب تعليمها قواعدها كما تعلّم المدارس قواعد اللغة , مع كل ما يعنيه الامر من نتائج متباينة فيها دوما عدد متقلب من الناجحين و الراسبين.



هذا ما يجبر كل الشعوب التي تريد الحفاظ علي حريتها ان تسن القوانين كمحاولة لملء جزء او كلّ من فراغ في طبيعتنا البشرية , لاننا لم نولد باستعداد فطري للمسؤولية ولا باستعداد فطري للعدل.



ان عراقة نظام ديمقراطي هي في قدرته علي الصمود اطول وقت ممكن في وجه الفوضي و الاستبداد , بالتعامل الحكيم مع نقص مزمن في طبيعتنا البشرية , وهو ما يتطلب منه علي الدوام تحديث قوانينه ومؤسساته , لكي تبقي ضامنة لوجود قوة لها من قدرة الخلق ما لها من قدرة التدمير.



يمكّننا هذا التصوّر من فهم _وآمُل , من تحمّل_ واقعنا الصعب و الاستعداد لما هو اصعب , اي لبناء نظام سياسي ثقافي اجتماعي لا اكثر منه دقة , حيث المطلوب امران ليس من السهل التوفيق بينهما : الاول تعهّد الحرية لانها المصدر الاساسي لقوة الافراد و المجتمع , و الثاني تقييدها دون شلّها حتي لا ينقلب الوعد وعيدا.



ان العملية بمثابة السير علي حبل ممدود علي هاوية اسمها الفوضي فالاستبداد , ' ثم الاستبداد فالفوضي , لان ما يقودنا دوما الي الفوضي هو الاستبداد , وما يعود بنا الي الاستبداد هو الفوضي ' .



'

ما تعاني منه بلدان الربيع العربي من انفلات , مُتوقَّع ومصاحِب لكل المراحل الانتقالية , ولا يُقبَل ان يكون حجة لاعداء الحرية او ذريعة لتبرير عودة الاستبداد

'

لكل من يريدون انجاح ثورة ديمقراطية هي كل املنا في بناء الغد الافضل لهذا الجيل و الاجيال القادمة , يجب التمسّك بهذه الثوابت.



خيار الحرية لا رجعة فيه , فهي القوة الخلاقة التي تجعل من الافراد اشخاصا , ومن الرعايا مواطنين , ومن المجتمعات الراكدة مجتمعات خلاقة.



اما ما تعاني منه بلدان الربيع العربي من انفلات , فمُتوقع ومصاحِب لكل المراحل الانتقالية , ولا يُقبَل ان يكون حجة لاعداء الحرية او ذريعة لتبرير عودة الاستبداد.



ثمة دوما داخل المجتمع قوي تتسم بقدر خطير من اللامسؤولية , تضع المصالح الفردية و القطاعية المشروعة و اللامشروعة , فوق المصالح الجماعية التي تتطلب غالب الوقت الكثير من الصبر و الاعتدال و التوافق. هذا ما سيجعل من بناء النظام الديمقراطي صراعا مريرا ضد القوي التي تسعي لبث الفوضي , وصراعا امرّ ضد القوي التي تريد وضع حد له بالعودة الي الاستبداد , وشعارها ' داوني بالتي كانت هي الداء ' .



لكل هذا يجب علي كل القوي السياسة التي تقود عملية التغيير , ان تتحلي بالقدر الاقصي من المسؤولية لتعويض كل النقص منها عند الاطراف الاخري , مستبطنة ان الانتصار الحقيقي ليس انتصار شق علي آخر , بل هو انتصار مشترك علي المشاكل التي تاخذ بخناقنا جميعا , ونحن علي مركب واحد تتقاذفه العاصفة , و المرفا ما زال بعيدا.

ليست هناك تعليقات :