' 1 '
احتاج الي مقدمة قبل الدخول في الموضوع.
ذلك انني ادرك ان الملف الايراني برمته يثير حساسيات ومشاعر متناقضة لدي البعض , وان التعبئة المضادة شكلت ادراكا اقنع كثيرين بانه في الحالة الايرانية فان الخصومة و القطيعة هي الحل.
وان شعار القبول بالآخر يسري علي كل الكيانات و الكائنات ومختلف الملل , ويحتمل التطبيق مع الصهاينة و الشيوعيين و البوذيين وعبدة النار وغيرهم من شياطين الانس و الجن , ولكن ينبغي ان يستثني منه الايرانيون و الشيعة باعتبارهما جنسا يختلف عن كل هؤلاء ,
ولان تلك هي الصورة النمطية التي استقرت في اذهان البعض واعتمدها الخطاب الاعلامي في مصر علي الاقل , فقد بات الاقتراب من الملف نوعا من المغامرة لا تؤمن عاقبته.
في هذا الصدد فانني اعترف بانني لن استطيع ان اصوب هذه الرؤية او ابدد الالتباسات المحيطة بها , لكنني اجد انه من المهم في اللحظة الراهنة ايضاح عدة امور , هي :
< ان هناك فرقا بين احترام التجربة و الاقتناع بها. واذا كان الشعب الايراني قد ايد فكرة ولاية الفقيه من خلال اختياره الحر فذلك شانه الذي علينا ان نحترمه , رغم اننا نري في الامر رايا آخر. < انه يتعين التفرقة ايضا بين الدفاع عن تطوير العلاقات المصرية الايرانية , رعاية لمصالح عليا بين البلدين وبين استنساخ التجربة الايرانية الذي لا يعد امرا واردا في السياق الذي نحن بصدده , وتلك بديهية طبقناها مع دول الكتلة الشيوعية مثلا. < انني احد القائلين باهمية التفرقة بين السياسة الايرانية و المذهب الشيعي الاثني عشري الذي له اتباع كثر في العالم العربي. فاختلافنا مع السياسة الايرانية لا ينبغي ان يتحول الي خصام للشيعة , و العكس صحيح. ذلك ان هناك مصالح عليا مشتركة ينبغي ان تظل فوق الخلاف السياسي او المذهبي. وللعلم فان اذربيجان الشيعية حين اختلفت مع ارمينيا المسيحية , فان طهران وقفت الي جانب الثانية ولم تقف الي جانب الاولي , وغلَّبت في ذلك المصالح التي نتحدث عنها. < ان العامل الحاسم في الخلاف مع ايران كان سياسيا بالاساس ولم يكن مذهبيا , فقد كانت العلاقات العربية الايرانية جيدة بشكل عام في عهد الشاه , ولكن الامر اختلف راسا علي عقب بعد قيام الثورة الاسلامية , رغم ان مجتمع الشيعة هناك ظل كما هو في عهد الشاه , ولم يحدث ذلك الانقلاب في العلاقات , لا لان الحالة المذهبية تغيرت , ولكن لان الثورة الاسلامية ناصبت الولايات المتحدة واسرائيل العداء , الامر الذي انعكس علي موقف اغلب الانظمة العربية التي سمت ذلك التحول من آيات ' الاعتدال ' وبراهينه. ' 2 ' ولاية الفقيه فكرة مرتبطة بخصوصية المذهب الشيعي , ثم انها ليست محل اجماع داخل المذهب ذاته , ولا نستطيع ان نستوعب الفكرة ما لم نضعها في سياقها التاريخي. ذلك انه باستثناء الدولة الفاطمية التي استمرت نحو مائتي عام في مصر وتونس و الشام ' 969 1172م ' , فان الشيعة عاشوا علي مر القرون بلا دولة يستظلون بها , فقام الفقيه بهذه المهمة. اذ صار هو المظلة التي تحمي وترعي اتباع المذهب. به يلوذون واليه يقدمون زكواتهم ويستفتونه فيما يستشكل عليهم , وتقليد المرجع الديني الحي واجب علي المتدينين. ولكي يقوم المرجع بواجباته فانه يوفر الخدمات للاتباع مما يحصله من مال الزكاة. وهذه الخدمات تتراوح بين مساعدة الفقراء وانشاء المدارس و المعاهد و المستشفيات وبعثات الحج و الابتعاث الدراسي الي الخارج. وله معاونون يباشرون تلك الانشطة لا يختلفون كثيرا في ادائهم لوظائفهم عن الوزراء المختصين , كما ان له وكلاء في مختلف الاقطار يتسلمون الزكوات ويتلقون استفسارات المقلدين , وهم اقرب الي السفراء فيما يؤدونه من وظائف. لقد اتيح لي ان التقي بعضا من المراجع العظام في مدينة قم. حين كنت اعد كتابي ' ايران من الداخل ' , الذي صدرت طبعته الاولي في عام 1987 , ووجدت انهم اقاموا ممالك مصغرة لا تختلف كثيرا عن الامارات التي انتشرت في اوروبا العصور الوسطي. واشرت في ثنايا الكتاب الي ان الدور الذي يقومون به وفر لاتباع المذهب الغطاء الذي كانوا بحاجة اليه في غياب الدولة , وان قيام المراجع بذلك الدور كان حلا عبقريا للحفاظ علي المذهب , خصوصا في ظل المخاطر التي كانت تتهدده جراء ضغوط مجتمعات اهل السنة المحيطة به , التي تحولت الي صراع وحروب بين الدولتين العثمانية السنية و الصفوية الشيعية , استمرت ستة عشر عاما , فيما بين سنتي 1623 و1639. هذه الخلفية حفرت للفقيه دورا عميقا ومهما في المجتمعات الشيعية , احسب انه يتجاوز بكثير دور الفقيه في مجتمعات اهل السنة. وهذا الدور كان بمثابة التربة التي نمت فيها فكرة ولاية الفقيه عند الشيعة. ذلك انه اذا كان في غيبة الدولة يقوم الفقيه بكل هذه الرعاية لصالح مقلديه , فان تاصيل هذه الفكرة من الناحية الشرعية من خلال ولاية الفقيه يغدو تطورا منطقيا ومفهوما. ' 3 ' يذهب بعض الباحثين في لبنان الي ان فكرة ولاية الفقيه اطلقها احد المجتهدين الكبار بين علماء الشيعة. هو الشيخ محمد بن مكي الجزيني الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي. وهو من قرية جزين في جبل عامل. وقد الف كتابا كان عنوانه ' اللمعة الدمشقية ' , وفيه ذكر لاول مرة عبارة نائب الامام. التي ذاع امرها فيما بعد واعتبرت اساسا لقيام الفقيه او المرجع بالدور الذي يتعين ان يقوم به الامام الغائب في القيام بامر الاتباع. وقيل في هذا الصدد ' ان التشيع افلح علي يد محمد بن مكي الجزيني في ملء فراغ السلطة , الذي استمر فترة تزيد علي اربعة قرون , اي منذ الانتهاء العملي لفترة الامامة ' . اي منذ اختفاء آخر ائمة آل البيت. المصادر الايرانية لا تشير الي دور الشيخ الجزيني , وتعتبر ان فكرة الولاية المطلقة للفقيه تنسب الي مجتهد آخر هو الشيخ احمد النراقي الذي ينسب الي قرية نراق بمحافظة كاشان في ايران ' توفي سنة 1820م ' . وقد خصص الشيخ النراقي فصلا في كتاب اصدره بعنوان ' عوائد الامام ' , كان عنوانه ' ولاية الفقيه ' . وسواء كان الرجل قد استقي العنوان من فكرة نائب الامام التي صكها الشيخ الجزيني ام لا , فالثابت في الادبيات الايرانية ان الشيخ النراقي هو صاحب الفكرة , وان آية الله الخميني تاثر بها ودعا اليها في مشروعه الذي جسده في كتابه عن ' الحكومة الاسلامية ' , وجمعت فيه محاضراته التي القاها علي الدارسين في الحوزة العلمية بالنجف الاشرف ' العراق ' , خلال ستينيات القرن الماضي. بمقتضي هذه الفكرة فان المرجع الديني باعتباره نائبا عن الامام الغائب , له حق الولاية المطلقة علي الامة وينبغي ان يكون الحاكم الشرعي لها , الامر الذي يجعل الفقهاء حكاما علي الملوك. وفي حين رحب بها البعض فان آخرين رفضوها. وفي المقدمة من هؤلاء السيد ابوالقاسم الخوئي ' المتوفي سنة 1992 ' الذي كان مرجع زمانه ويتربع علي راس الحوزة العلمية في مدينة النجف بالعراق وقد اصدر رسالة انتقد فيها راي الامام الخميني كانت بعنوان ' اساس الحكومة الاسلامية ' . ايده في ذلك المراجع الكبار في مدينة قم بايران. وكان ذلك الموقف هو السبب الاساسي الذي دعا الامام الخميني لان يفضل الاقامة في طهران بدلا من قم , بعد نجاح الثورة وعودته الي وطنه من منفاه بباريس. وكان ذلك التحفظ صداه في اوساط شيعة لبنان , فاصدر الدكتور محمد جواد مغنية , وهو من فقهائهم , كتابا بعنوان ' الخميني و الدولة الاسلامية ' , فند فيه راي الخميني ورفض فكرة الولاية المطلقة للمرجع. وايده في هذا الموقف رئيس المجلس الشيعي الاعلي الامام محمد مهدي شمس الدين , ' المتوفي سنة 2001 ' , وقد سمعت منه حديثا مطولا في المسالة انحاز فيه الي فكرة ولاية الامة ورفض ولاية الفقيه. ' 4 ' ليس بين ايدينا اي تقييم لتجربة ولاية الفقيه علي صعيد الواقع , بعد الذي قراناه في نقد النظرية انحيازات الي فكرة الولاية النسبية وليست المطلقة للفقيه. الا ان الثابت ان سياقها التاريخي وخلفيتها المذهبية يجعلانها من خصوصيات المذهب الشيعي , ولا مكان لها في المجتمعات السنية بمرجعياتها الفكرية التي لا تعرف فكرة حصر الامامة في سلالة الرسول عليه الصلاة و السلام ' الشيعة يعتبرونها من اركان الاسلام التي هي عندهم ستة وليست خمسة في ثقافة اهل السنة ' . ولانه لا مكان للامامة في الفكر السياسي لدي اهل السنة , فلا محل للحديث عن نائب الامام او عن مراتب الفقهاء الذين يتميزون بعلمهم , فضلا عن ان الفقهاء عند اهل السنة ليسوا خريجي المعاهد الدينية فقط , وانما هم كل من حسن اسلامه وتبحر في اي فرع من فروع المعرفة الانسانية. لقد درج العمل في مجتمعات اهل السنة علي الفصل بين المؤسسة الدينية و الدولة , وثمة كتابات عدة تعرضت لهذه المسالة وشاركت في صياغة وضبط العلاقة بين الفقيه و السلطان. وظل الاتجاه الغالب ينحو نحو التمييز بينهما. و التمييز غير الفصل الذي يدعو اليه البعض , وانما هو اقرب الي تنوع الاختصاص واحترام حدوده. صحيح ان الازهر في مصر كان له دوره البارز في الشان العام في عهد المماليك و العثمانيين بوجه اخص ' من القرن الثالث عشر الي التاسع عشر ' , الا ان ذلك كان راجعا الي انه كان يمثل في تلك المرحلة اهم مؤسسة للنخبة في المجتمع فضلا عن تمتعه بتمام الاستقلال : وهو وضع اختلف حين تعددت مؤسسات الدولة , وحين تغول سلطانها علي نحو اضعف استقلال الازهر , وجعله تابعا للسلطة وليس موازيا لها. وفي الوقت الراهن تم ضبط دوره في الدستور المصري الجديد , الذي نصت المادة الرابعة منه علي ان الازهر ' هيئة اسلامية جامعة , يختص دون غيره بالقيام علي كافة شؤونه , ويتولي نشر الدعوة الاسلامية وعلوم الدين و اللغة العربية في مصر و العالم. ويؤخذ راي هيئة كبار العلماء بالازهر الشريف في الشؤون المتعلقة بالشريعة الاسلامية ' . هذا النص وضع حدا للغط المثار حول توسيع مرجعية الازهر ' تلك هي النقطة الوحيدة التي اتفق فيها السلفيون مع الشيعة ' , الامر الذي يمكننا من الرد علي رسالة علماء طهران بالشكر علي مقترحهم وبالاعتذار عن عدم قبوله. وهو ما يمكن ان يتم بهدوء وادب و احترام , الا ان تلك المفردات سقطت فيما بدا من قاموس خطاب مرحلة العراك و التجاذب التي نمر بها .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق