فاروق حسني يكشف خبرة السنين : مبارك أدار مصر بلا خيال و لم يدرك أنها كنز بين يديه



لم ينتفض ولم يغضب فاروق حسني حين قالت له الكاتبة حنان شومان انه من اقدم الفلول تماما كما لم يكن يغضب حين كنت اختلف معه وانتقده بعنف يوم ان كان ملء السمع و البصر و السلطة وزيرا للثقافة , واقدم وزراء نظام مبارك , ذهبت السلطة ولكن بقي فاروق حسني الفنان غير متشائم فكان لها معه هذا الحديث.

كيف تعيش الآن بعد 30 عاما كرجل في السلطة؟

_ اخيرا اشعر بالحرية بعد ان كنت مسجونا في الوزارة , ثم مسجونا في اتهام بالفساد , اجاهد لاثبات براءتي. واخيرا انا حر , اقرا وارسم واكتب و التقي بالناس.

دائما تبدو لوحاتك لغير متذوقي الفن رسما غير مفهومة وغامضة لكن لو طلبت منك الآن ان ترسم لوحة للوطن يفهمها العامة كيف سترسمها؟

_ اولا لوحاتي لا علاقة لها بالفهم , فهي لوحات للاحساس و الوجدان , لا يحتاج لشرح. لو كنت ارسم شخوصا او اماكن من حق الجمهور ان يقول لي ' فهمنا ' . لكن الاحساس لا يشرح. وعودة لسؤالك لا اظن ان هناك اي فنان في العالم يستطيع ان يرسم العاصفة في حينها , لكنه يستطيع ان يرسم ملامحها بعد ان تهدا , نحن الآن في عين العاصفة , فكيف ارسم ملامح لوطن في عاصفة. مصر تحتاج الهدوء و الراحة حتي نستطيع ان نرسمها ونحلم بها ولها.

البعض يري لون مصر الآن لونا اسود فكيف تراه وانت الذي يجيد استخدام الالوان؟

لا اوافق ان امنح مصر الآن اللون الاسود , فهو من وجهة نظري لون حضوره طاغيا , وصاحب ملامح قوية كما انه لون انيق , لو اخترت لمصر لون الآن ساختار الرمادي , لانه لون بلا شخصية او ملامح واضحة هو خليط من الوان اخري , فلا الشعب عارف ماذا يريد ولا حكامه يعرفون كيف تسير البلاد , الكل في حالة لخبطة , مصر الآن بلا ملامح و الكل فيها تائه.

كثير من الاعمال الفنية خاصة السينمائية و الادبية قبل يناير 2011 بشرت بثورة مقبلة -- كفنان وليس كمسؤول , هل كنت تتخيل يوما ان تواجه مع مصر هذا السيناريو؟

_ لا لم اتخيل اني ساحيا في مثل هذا السيناريو , ولكني كنت انتظر الثورة , ولم اتخيل شكلها او توقيتها , ولا اظن ان احدا ممن يعيش الآن بما فيه من يحكمنا كان يحلم بما نحن فيه الآن , اما الثورة ذاتها كفعل فكنت انتظره -- اسمعي , انا واحد من قلب نظام مبارك واقدر الرجل بشدة لانه اعطاني فرصة لانجاز الكثير لمصلحة مصر , ولكني مدرك تماما اخطاء النظام الذي كنت جزءا منه. فقد اهتم ببناء بلد وجماد دون ان يهتم ببناء الانسان , و الاصل في الاوطان البشر , كنت علي مدي سنوات اطالب بقيام لجنة للتنمية البشرية من وزارات الاعلام و الثقافة و التربية و التعليم و الاوقاف و الشباب لتتعاون علي تربية النشء بالتبادل ولكن لم يستجب لي , وكانت كل وزارة تعمل في جهة. اهمال الانسان خطا كبير , ولا اعفي نفسي من المسؤولية.

لكني كوزارة لم اكن استطع انجاز هذا منفردا , فانا بنيت معاقل الثقافة وآلياتها , ولكن المنظومة العامة للدولة لم تكن تهتم بالثقافة , بنيت وطورت المتاحف و المكتبات , فلم تكن هناك غير مكتبة واحدة يوم ان تسلمت الوزارة , بنيت مسارح وطورت اخري , اقمت دارا للاوبرا في دمنهور , انشات دارا للكتب كانت مجرد ادارة في هيئة الكتاب. رفعت منح التفرغ للادباء الشبان من 150 جنيها الي 1500 جنيه , اعدت لمصر تاريخها وآثارها الاسلامية , وبنيت المتحف الكبير وهو مشروع العمر الذي كان تقريبا انتهي قبل الثورة ولم يتم افتتاحه ليضم كنوز مصر.

حتي لو وافقتك علي كل هذه الانجازات الثقافية تظل الثقافة التي لا تؤثر في المجتمع و البشر هي ثقافة فوقية لا قيمة لها في البناء البشري -- الآن كاننا بلد بلا ثقافة يا من كنت علي راس الثقافة ثلاثين عاما؟!

_ مقولة خاطئة -- فمصر لا تنقصها الثقافة , ولكن تنقصها التربية , و الثقافة جزء ضئيل من التربية. فالجزء الاكبر يقع علي التعليم ثم يليه الاسرة ثم التقويم الديني دون مغالاة , فكيف يستقبل الناس الثقافة دون اعداد مسبق من قِبل هذه المؤسسات , في مجتمع تلغي فيه وزارة التربية و التعليم حصص الرسم و الموسيقي و الالعاب البدنية لا تحدثيني عن الثقافة وقيمتها ودورها.

تتحدث وكانك كنت مواطنا عاديا , انت كنت وزيرا ووزيرا قويا وصاحب اطول حضور في نظام مبارك -- فلم لم تطلب ذلك التكامل؟

_ طالبت كثيرا ولكني لم اكن صاحب قرار ويد عليا علي بقية الوزارات ومؤسسات الدولة , وساعطيك مثالا فقد طالبت بانشاء لجنة دينية تجمع بين كبار المثقفين الاسلاميين و المسيحيين , بهدف محاربة التطرف الديني ضد الفن و الثقافة , هوجمت لمجرد طرح الفكرة وقالوا لي ستفتح علينا ابواب جهنم وحتي من بعض المثقفين ذاتهم.

كنت وما زلت تقول ان اهم انجازاتك ترميم واكتشاف الآثار وبناء المتاحف ورغم هذا فاكبر عمليات لسرقة وتهريب الآثار تمت في العصر الذي كنت تحكم فيه؟!

_ طول عمر الآثار بتتهرب من مصر وتهريبها للعالم كان بالقانون حتي منعته انا , فحتي عام 1982 كان في المتحف المصري ادارة للتصدير ومزادات للقطع الاثرية , وكان القانون يمنح بعثات التنقيب نصف ما يتم اكتشافه , فاصدرت في عام 1983 قانونا بتخفيض النسبة الي 10 في المائة ثم في عام 1987 الغيت النسبة تماما , واعلنت لمجموعات التنقيب ان مجرد سماحنا لهم بالتنقيب واكتشاف الآثار في حد ذاته يعد مكافاة علي الاكتشاف لانهم ينالوا درجات علمية في مقابله.

الآثار في عهد وزارتي تمت صيانتها واطلقت علي جريدة لوموند الفرنسية لقب وزير ابو الهول , لاني في بداية تولي وزارة الثقافة كان يتم ترميم ابو الهول فذهبت لاتابع عملية الترميم , فكاد ان يغمي علي مما فعلوه به , كانوا قد افسدوه تماما بالاسمنت ويكاد ان يتم تدميره لا ترميمه , فارسلت الي المثال العالمي المصري آدم حنين , وكان يقيم في باريس وطلبت منه الحضور ليتولي الترميم , فقال لي هو انا مجنون لاقترب من ابو الهول , ولكن حين ذهب لرؤيته لطم حرفيا وظل يسب فيمن قام بهذا العمل وطلب مني رسوما تشريحية للتمثال منذ بداية القرن , فاحضرتها من مكتبة الكونجرس وساعده المثال محمود مبروك لانقاذ ابو الهول , ولو لم افعل شيئا سوي هذا الانجاز للآثار ومصر لكفاني فخرا.

وبماذا يشعر وزير ابوالهول حين يسمع ويشاهد علي الشاشات بعض الدعوات التي تنادي بهدمه و التماثيل الاثرية لانها اصنام؟

_ هدم التماثيل او حتي مجرد الحديث عن هدمها وانها اصنام كفيل بنهاية كلمة من ثلاث حروف م ص ر , واننا تحولنا الي شعب همجي بلا اصل , وهي تشبه حالة انسان يقرر ان يتخلص من كل عائلته وجذوره بالقتل فيتحول الي لقيط بلا جذور , ولو تم سيكتب التاريخ اننا اكثر الشعوب اجراما في حق البشرية. لكني اتصور ان هذه مجرد احاديث واحداث عارضة ستزول , وحتي نزع تمثال طه حسين وتغطية راس ام كلثوم هي افعال من ناس لديها لوثة دينية , ولكني اتصور ان هذه الاعراض ستختفي عندما يفيق كل من له سلطة دينية او سياسية او حتي اجتماعية وتعود العقول الي صوابها.

كانت لوحاتك تباع كما يقال باسعار عالية جدا لا تتناسب مع قيمتها الحقيقية لانك وزير , كنوع من المجاملة يشوبها فساد -- فهل مازالت تباع بنفس القيمة؟

_ رسمت 80 لوحة علي مدي عامين وطول عمر لوحاتي تباع غالية حتي قبل الوزارة , سواء خارج مصر او داخلها , منذ كنت اعيش في روما ولي وكيل اعمال ايطالي , ومنذ الثورة دعتني دول كثيرة لاقامة معارض فيها , ولكني لم اكن استطيع السفر لاني كنت ممنوعا من السفر , انا اللي عملت للفن التشكيلي في مصر سعرا , واسعاري كانت اغلي من اي رسام آخر حتي قبل الوزارة , لوحاتي عُرضت في اهم متاحف العالم في اللوفر و المتحف القومي بفينا وهيوستون وروما و المتروبوليتان , وكتب عني اهم نقاد للفنون في العالم فهل كل هؤلاء يهتمون ويقتنون لوحاتي لاني وزير مصري , الوزارة سرقت عمري وفلوسي فقبل الوزارة كنت امتلك حصة من مركبتين سياحيتين 25 في المائة و30 في المائة ولاني اهملتهما بسبب الوزارة صارت حصتي فيهما يوم خرجت 10 في المائة , الكسب غير المشروع فحص كل ورقة وشيك وايصال عليه اسمي , و المحكمة اعلنت براءتي ولكن مازال موجودا من يتمني ان اكون مدانا.

كنت اقدم وزير ارتبط بنظام مبارك ولذا فانت اكثر من ينطبق عليك عبارة الفلول وقد تكون اقدم الفلول -- هل تثير غضبك هذه الكلمة كما تفعل مع البعض؟

_ لا علي الاطلاق لانني لم افعل بسلطتي فسادا , وقدمت الكثير من اجل مصر , ولو ان كلمة فلول تنطبق علي , اذن سيتمني كل شخص ان يكون فلولا.

كان من المعروف ان لسوزان مبارك وزارات تخصها تعين فيها من تراه وتقيل من تغضب عليه مثل وزارة الصحة و الثقافة و الاعلام -- وكان يتردد ان قوة علاقتك بها هو ما ابقي عليك وزيرا طوال تلك الفترة برغم توالي الوزارات وتغييرها؟!

_ حين توليت الوزارة كان عمري 44 عاما وكنت اصغر وزير تولي هذا المنصب , ولهذا كنت اكثر الوزراء قدرة علي الحلم , خاصة انني اتيت من عالم الفنون , مبارك كان متمسكا بي لاني كنت انفذ كل المشروعات و الاحلام دون ان اكلفهم شيئا , وفي النهاية ينسب العمل له كحاكم للبلاد , فكل مشروعات الترميم وبناء المتاحف و المكتبات و المسارح مثل الجمهورية واوبرا دمنهور وغيرها عملت علي تمويلها ب10 في المائة فقط من دخل الوزارة , دون ان اكلف الموازنة مليما اكثر مما هو مقرر في الموازنة العامة , غير اني لا استطيع ان انكر ان علاقة العمل التي جمعتني بالسيدة سوزان مبارك كانت جيدة جدا , وكانت من عوامل تاكيد مكانتي , فهي كانت مهتمة بصناعة الكتاب وبالثقافة ورات في عملي مصلحة مضافة لمصر وليس لها , اكون كاذبا وقاسيا لو ابخست حق هذه السيدة في كثير من المشروعات ذي المنفعة العامة , كانت تعمل ما تراه في مصلحة مصر وهذا ما لها للانصاف , اما ما عليها فاظن انها كانت تدعم توريث جمال لحكم مصر.

مصر وحتي العالم كان يتحدث عن التوريث في البيت الرئاسي فكيف بوزير لصيق بهذا البيت يقول اظن انها كانت تدعم التوريث؟!

_ لم اكن يوما عضوا في الحزب الوطني , ولم اكن بالتالي علي علاقة بامانة السياسات , ولم يكن اعضاؤها علي وفاق بالاساس معي , وانت تساليني لشهادة موثقة , فهي ابدا لم تذكر مثل هذا الشيء معي , و الكل كان يعلم اني ضد الفكرة ورايي مسجل في العديد من البرامج مع محمود سعد وخيري رمضان وعمرو الليثي اني كنت ضد التوريث , واذكر للتاريخ اني كنت في رحلة مع مبارك في طائرة صغيرة ويصحبنا زكريا عزمي وصفوت الشريف سالته صراحة عما يتردد بشان التوريث فقال بالحرف الواحد : هو انا مجنون علشان اودي ابني في التهلكة.

هل التقيت مبارك او زوجته منذ اندلاع ثورة يناير او حتي اتصلت بهما؟

_ طوال ايام الثورة لم يحدث اي اتصال ولكن بعد ان ذهبوا الي شرم الشيخ اتصلت اطمئن علي الرئيس وعائلته ولكني لم اتحدث له , وحاولت ان اتحدث للسيدة سوزان للاطمئنان عليها انسانيا ولكنها مختفية حتي عن اقرب صديقاتها , ولم استطع التواصل معها فهي فضلت الاختفاء وانا احترمت رغبتها.

جلال الشرقاوي منذ ايام قليلة اتهمك ونظام مبارك بانك كنت السبب في قتل المسرح المصري لانك كنت تؤازر , حسب ما قال , المسرح التجريبي الذي يعتمد علي لغة الجسد علي عكس مسرح الكلمة و الفكر -- فبم ترد عليه؟

_ الشرقاوي هو آخر واحد يتحدث عن المسرح وقيمه , لان مسرحه ليس مسرحا , و الاهم ان وجوده جريمة في حق الوطن , فهو مغتصب وافسد جوهرة من آثار مصر , وهو معهد الموسيقي العربية ولا يجب انتهاك الحديقة التي ضمت ام كلثوم وبيرم التونسي وعبدالوهاب وعمالقة الفن لاي سبب وبحجة بناء مسرح قبيح , جلال الشرقاوي لا يخرج بعقله ولا عينيه خارج مسرحه , واتمني ان يتبني مثقفو مصر وشبابها حقهم في التراث المغتصب باسم مسرح فج.

كاقدم وزير في نظام مبارك الذي ثار عليه الشعب -- ما هي الخطيئة الكبري التي اقترفها هذا النظام في حق مصر؟

_ هو نظام كان يبني دولة بلا خيال ولم يهتم ببناء الانسان , لم يدرك النظام حتي وهو يبني الدولة ان في يديه كنزا غير محدود اسمه مصر , فحتي خيراتها من وجهة نظره كانت محدودة , وساعطيك مثالا , فمنذ عشرين عاما قدمت لمجلس الوزراء مشروعا متكاملا واطلقت عليه النيل الجديد وهو لطريق بري من الشمال للجنوب يسير بمحاذاة النيل ويبتعد قليلا , وهو مشروع من شانه ان يشجع سياحة الافراد بدل الاكتفاء بسياحة المجموعات , وهو مشروع كفيل باحياء الصعيد وخلق ملايين من فرص العمل , ومن فرط ما تحدثت عنه دون مجيب كلمت مبارك شخصيا فقال لي يا فاروق انت سخنان علينا كده ليه!

من لم يدخل السجن من نجوم نظام مبارك بعضهم هرب , فهل حاولت الهرب ولم تنجح ام انك لم تكن خائفا؟

_ ولماذا اهرب , ولكن علي فكرة اسهل حاجة في مصر الهروب لو كنت اريد ولكني لم افكر او حتي احاول , ارتباطي بالبلد اكبر من ارتباطي باي نظام , ثم اني لم اخف لاني بريء من الفساد , و الآن بعد ان ظهرت براءتي بحكم محكمة دامغ وبعد تحقيقات مطولة تاكد للجميع اني كنت علي صواب. ولن اهاجر لاي مكان , قد اسافر هنا او هناك لمعرض ولكني دائما ساعود فهنا جذوري.

فرضية خيالية ولكني اطرحها عليك , لو طلبت منك حكومة الاخوان بعضا من لوحاتك مثلا لتضعها في مكان عام هل تقبل ان تمنح لوحاتك دون مقابل لهم؟

_ طبعا دون تفكير لانها ستكون لمصر وليس لهم , فالاشياء القيمة نمنحها للوطن حتي لو طلبها الشيطان , انا في الاصل وحتي قبل الثورة كنت متنازلا عن بيتي لمصر.

شباب مصر يمثل 64 في المائة من سكانها وهم اصحاب الثورة علي نظام انت كنت جزءا منه , فماذا تقول لهم؟

_ اقول لهم هذا الوطن ملككم , انتم اصحابه , اما نحن فقد رحلنا وعمرنا ورائنا , ابحثوا عن هوية الوطن مصر وتمسكوا بها ولا تجعلوا احدا يشككم فيها لانها الاصل , وانتم ستكونوا بناة الوطن ولتنجحوا فيما فشلنا نحن فيه.

انتهي حواري مع فاروق حسني الوزير الذي كان دائما موضع الهجوم ثم صار مواطنا ومسؤولا سابقا في موضع اتهام ثم اخيرا الفنان الذي ينتظر حكم التاريخ عليه وعلي زمنه.

ليست هناك تعليقات :