ليس مقال رأي و لكنه القاء ضوء أيمن الصياد



اعتذر بداية للقارئ الكريم , فهذا ليس مقال ' راي ' , بقدر ما هو محاولة لالقاء ضوء علي مصطلح اخشي ان يكون قد شابه لدينا بحسن نية او بغيرها بعض الضرر . و اقصد به مصطلح ' العدالة الانتقالية ' او بالانجليزية Transitional Justice و لان للغة ايحاءاتها , فقد يكون بعض مشكلة ' الفهم الخاص ' للمصطلح او المفهوم عائدا الي الترجمة , فرغم ان دارسي القانون يعلمون ان مفهوم ' العدالة ' لا يقتصر علي النصوص وتطبيقاتها , بل يعني في جوهره ' الشعور بالعدل ' . الا ان اللفظة قد تذهب باذهان البعض قسرا الي القوانين و المحاكم و النيابات فيتصور ان المفهوم يقصد ' او يقتصر ' علي انشاء محاكم استثنائية ' او نيابات خاصة ' تضمن تحقيق العدالة ' او القصاص ' اثناء الفترة الانتقالية. كما قد تاخذ البعض رغبتُه ' او مصالحُه ' فيعمل علي اختصار المفهوم في ' المصالحة ' مع رموز النظام السابق . سياسية كانت او مالية , مستحضرا تجربة جنوب افريقيا فيما بعد العنصرية , متناسيا رغم ثقافته الدينية ان ' معني الآية ' لا يكتمل بقراءة شطر واحد منها , كما ان تفسيرها لا يمكن ان ينفصل عن السياق واسباب النزول -- . الخ.

_ _ _

قد يفاجا البعض عندما يعرف ان اكثر من الف كتاب في العلوم السياسية و القانون صدر حول الموضوع . مفهوما وتعريفا ودراسات مقارنة للآليات التي جري اعتمادها هنا وهناك في الدول التي شهدت مراحل ' انتقال ' من حالة استبداد او صراع , الي دولة معاصرة تتوافر لها عناصر الديمقراطية و الاستقرار. كما قد لا يعرف الكثيرون ان الامم المتحدة اولت الموضوع اهتماما خاصا وصل الي درجة ان سكرتيرها العام السابق ' كوفي انان ' اصدر في اغسطس ٢٠٠٤ تقريرا خاصا عرف فيه مفهوم العدالة الانتقالية بانه ' الآليات التي يجب ان يقوم بها المجتمع للتعامل مع تركة تجاوزات الماضي واسعة النطاق , بغية كفالة المساءلة واقامة العدالة وتحقيق المصالحة ' . وتذهب الخبرة المتراكمة لدارسي تجارب الانتقال الديمقراطي , سواء في مرحلة ما بعد الحرب الثانية ' ١٩٣٩_١٩٤٥ ' او سقوط جدار برلين ' ١٩٨٩ ' , او تلك المتميزة في افريقيا وامريكا اللاتينية الي ان مفهوم ' العدالة الانتقالية ' يعني ببساطة : مجموعة الاساليب و الآليات التي يستخدمها مجتمع ما في فترة انتقالية في تاريخه ' بعد اندلاع ثورة او انتهاء حرب ' لضمان تحقيق العدالة ' بمفهومها الاوسع ' , ولتوفير مقتضيات الانتقال ' السلمي و الآمن و الحقيقي ' من الحكم السلطوي لنظام قمعي داخل البلاد الي نظام ديمقراطي حقيقي يشعر فيه المواطنون ' بالعدالة ' .

وهو عمليا مفهوم يشير الي مجموعة التدابير القضائية ' وغير القضائية ' التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من اجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان. وتتضمّن هذه التدابير الملاحقات القضائية , ولجان الحقيقة , وبرامج جبر الضرر واشكال متنوّعة من اصلاح المؤسسات.

وبغض النظر عن جدل ' اكاديمي ' معتاد حول المصطلح , ومعني ' انتقالية ' , و التساؤل ' النظري ' حول عدالة الاختلاف بين هذا المفهوم للعدالة وبين ما الفناه من مفاهيم العدالة التقليدية المرتبطة باحكام القضاء و اللجوء الي المحاكم بانواعها ودرجاتها , الا ان التجارب ' العملية ' لاكثر من ثلاثين دولة من تيمور الشرقية شرقا , وحتي تشيلي و الارجنتين وبيرو غربا وفرت رافدا خصبا لدارسي العلوم السياسية لتقنين المفهوم واحكامه.

وتذهب تلك الدراسات الي انه علي اثر انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان , يحقّ للضحايا ان يروا معاقبة المرتكبين ومعرفة الحقيقة و الحصول علي تعويضات. ولانّ الانتهاكات المنتظمة لحقوق الانسان لا تؤثّر علي الضحايا المباشرين وحسب , بل علي المجتمع ككلّ , يصبح من مقتضيات نجاح المرحلة الانتقالية ان تضمن الدولة او بالاحري القائمون علي ادارة المرحلة الانتقالية عدم تكرار تلك الانتهاكات , مما يقضي بضرورة القيام باصلاح المؤسسات التي اما كان لها يد في هذه الانتهاكات او كانت عاجزة عن تفاديها. وتقول تجارب السابقين التي تشير اليها الدراسات ان تاريخا حافلا بالانتهاكات الجسيمة التي لم تُعالج سيؤدي حتما الي انقسامات اجتماعية ويكرس غياب الثقة بين جماعات المجتمع المختلفة , بل وفي مؤسّسات الدولة ذاتها , فضلا عن عرقلة الامن و الاهداف الانمائية او ابطاء تحقيقهما. كما انّه سيطرح تساؤلات بشان الالتزام بسيادة القانون وقد يؤول في نهاية المطاف الي حلقة مفرغة من العنف في اشكال شتّي -- هل نتحدث عن ' مصر الآن ' ؟ كاننا كذلك.

_ _ _

وكما يَعرف دارسو العلوم الاجتماعية كافة , فلا توجد وصفة سحرية , كما لا يوجد دواء واحد يمكن وصفه ب ' الجرعة ذاتها ' لكل المرضي وان تشابهت الاعراض. ولكن توجد دائما عناصر اساسية لابد من الاخذ بها , وان اختلفت التفاصيل. وللعدالة الانتقالية ' تبسيطا ' واختصارا خمسة عناصر :

اولا : الحقيقة وبناء الوعي :

الكشف عن الحقيقة ' الكاملة ' علي قسوتها ضروري لبناء الوعي الجمعي ' المستَنكِر ' لما جري من انتهاكات بشكل يجعل من الصعب تكرارها في المستقبل. ولان لا احد يعلم بالتحديد حجم ومستوي الانتهاكات التي ترتكب ابان حكم الانظمة الاستبدادية , يصبح من الضروري تاسيس لجان مستقلة هدفها الاساسي الكشف عن حقيقة ما حدث. واطلاع المواطنين بشكل ممنهج علي الملفات ذات الصلة. كذلك تعمل لجان الحقيقة علي التوثيق لمرحلة مهمة في تاريخ المجتمع حتي يمنع تزويرها او اعادة كتابتها مستقبلا. ' ماذا جري للاسلاميين في المعتقلات علي مدي ثلاثين عاما , وكيف جري تفجير كنيسة القديسين , وهل كان يجري التجسس علي هواتف المواطنين , واين ذهبت تلك التسجيلات؟ …الخ '

ثانيا : المحاكمات :

اخذا في الاعتبار ان المحاسبة هنا ينبغي ان تتجاوز ما هو جنائي ' له اشتراطاته ' الي ما هو سياسي , من قبيل الفساد و الرشوة وتزوير الانتخابات وافساد الحياة السياسية… الخ. واذا كنا نعرف ان ' في القصاص حياة ' فلسنا بحاجة الي التاكيد علي ان غياب مبدا المحاكمات ' العادلة و الناجزة ' من الممكن له ان يؤدي الي زعزعة الثقة في الدولة و القانون , وكما هو الحال في ليبيا يؤدي ايضا الي انتشار العشوائية و الارتجالية و الاخذ بالثار و الانتقام واخذ زمام المبادرة من قبل الافراد في تحصيل الحقوق الفردية. ' النتيجة ذاتها يؤدي اليها زعزعة الثقة بمؤسسة القضاء علي عمومها , وبعض نتائج ذلك رايناه في بورسعيد ' .

ثالثا : التعويض وجبر الضرر :

ولا بد هنا للاسف ان ناخذ بالحسبان ان الكثير من الانتهاكات التي حصلت في الماضي لا يمكن بالضرورة استرجاعها , او التعويض عنها. كما لا بد من ان ندرك ان جبر الضرر يتجاوز بكثير ' التعويض المادي ' ايا ما كانت قيمته. وفي هذا تفصيل كثير.

رابعا : الاصلاح المؤسسي :

لا يمارس النظام ظلمه او تجاوزاته الا بالاعتماد علي مؤسسات الدولة التي تصبح تدريجيا ادوات لقمعه؟ وتقول التجارب انه لا يمكن استيفاء متطلبات التحول الديمقراطي دون وجود تصور متكامل وواقعي لاصلاح ثلاث مؤسسات ' الامن و القضاء و الاعلام ' , مع ملاحظة :

١ الا يعني هذا الاصلاح ' هدما ' لتلك المؤسسات.

٢ الا يكون معني الاصلاح مجرد ' تغيير للولاءات ' من السلطة القديمة الي السلطة الجديدة.

كيف يكون الاصلاح اذن؟ لن نحتاج الي ' اعادة اختراع العجلة ' , فالدراسات كثيرة جدا في الموضوع. وهي بالتاكيد تتجاوز ' مراهقات ' محاصرة المحاكم او استديوهات البث التليفزيوني.

خامسا : المصالحة :

وتاتي فقط بعد استيفاء المتطلبات الاربعة السابقة. وتشير تجارب السابقين الي ان ' احراق المراحل ' بمعني الحديث عن المصالحة ' مادية كانت او جنائية ' قبل اوانها , من شانه اشاعة شعور كامن بالاحباط , لابد وان ينفجر في لحظة غير متوقعة , ليهدد تجربة التحول باكملها.

هل نتحدث عن ' مصر الآن ' ؟ كاننا كذلك.

_ _ _

وبعد…

فاحسب ان ' العلم ' و المعرفة بالمفهوم ومعناه ومقتضياته , قد غابا عمن اُوكلت اليه ادارة البلاد ' بعد ثورة ' . سواء بقرار من رئيس الجمهورية , تلاه رجل مخابراته , او بقرار من ناخبين ذهبوا الي صندوق الاقتراع بعد سبعة عشر شهرا كاملة . مستنزفين ومرهقين ' ومضطرين ' للاقتراع ' استبعادا ' لمن لا يريدون , وليس رغبة فيمن حقا يريدون.

غاب المفهوم اذن , وغابت سياساته , رغم انه خارطة الطريق الوحيدة ' في تجارب السابقين ' الكفيلة بضمان التحول الديمقراطي ' السليم و الآمن ' . وعندما تغيب الخارطة , يتوه المسافرون -- واحسب ان هذا للاسف ما كان.

لماذا -- وكيف؟ وهل من سبيل لاحتساب ' وقت بدل الضائع ' كما يقول لاعبو الكرة؟

ضاقت بنا المساحة… فليكن هذا ' اجتهاد ' المقال القادم.

ليست هناك تعليقات :